سامحهم

00:33 صباحا
قراءة 3 دقائق
تعلمنا في طفولتنا الكثير من الأمور الفطرية الإنسانية الموجهة من قبل الأهل في مرحلة تؤهلنا للقادم الأصعب من الأيام، وتكسبنا مناعة ضد الصدمات التي قد تعصف بهدوئنا وتعكر صفو مزاجنا وتقلب راحتنا رأساً على عقب، ولأن الإنسان لا يعيش وحيداً، فإنه سيختبر في ميادين التعامل مع الآخرين، وربما تكون الطفولة بما فيها من براءة وشيطنة هي من أهم مراحل التأهيل، وإذا ما عاد الواحد منا إلى أيام طفولته سيجد فيها ذكريات تصالح وتسامح عفوي مع أشخاص تعرضنا منهم للأذى، وأصيبت أجسادنا بكدمات وجروح تجعلنا نعود من المعركة وسلاحنا الشكوى والبكاء، لنجد كلمة جميلة تمسح عنا الدمع وتداوي جرح الجسد والنفس «سامحهم».
تلك كلمة كنت أسمعها دائماً من أبي حين آتيه شاكياً من زميل دراسة أو صديق في الحارة أخطأ بعفوية الطفولة علي، ليجعلني أعود إلى أصدقائي لمشاركتهم اللعب في الطرقات، وكأن ما حدث قد تم مسحه من الذاكرة، وتبدأ الحياة جميلة مع الجري والضحك للحياة، وتعلمنا من تلك المواقف أن الحياة محطات تجمع تناقضات كثيرة، وتحتمل العديد من الصدمات والمشاحنات والاختلافات وسوء الفهم، وهو ما نقلنا بكل أريحية إلى مراحل الدراسة الأولى التي أكملت هذا الدور الإنساني التربوي المهم في عملية بناء الإنسان ليكون قادراً على صنع مستقبل لشخصه ولأمته، فلولا ذلك التجاوز عن الآخر لربما كبر فينا نقيضه الذي يجعل الحياة مشدودة متأزمة وغير متصالحة.
علمنا الشعر تلك المعاني، فقد كان للتربية المدرسية دور مهم في ترقيق الشعور، وتهذيب الطبع وجعله يوازن الأمور بفهم ودراية، وأن التسامح حاجة نملكها ونسهم بها في إسعاد غيرنا مثلما يملك البعض المال أو الغذاء أو الدواء، وغيرها ليقدمها إلى من يحتاج إليها كما يقول الشاعر:
ولكنني أسعى لأنفع صاحبي

                      وعارٌ على الشبعان إن جاعَ صاحبُهْ
تعلمنا من كلمات وحكم الأولين وكنوزهم الغالية ما جعلنا نصل إلى فهم معنى التصالح مع الذات قبل الآخر، وأن طأطأة الرأس ليست جرحاً للكرامة، إنما هي محاولة لعدم التصادم مع الرياح وجعلها تمر بسلام دون أن تصيبنا بأذى، وهو ما يروى عن الخليفة عمر رضي الله عنه «إذا سمعت الكلمة تؤذيك فطأطئ لها حتى تتخطاك» كما تعلمنا أيضاً من المقولة التي صارت مثلاً يتداوله الناس كثيراً حين يتعرضون للأذى من الآخرين وهي «من صفعك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر» ليس ذلاً أو جبناً، وإنما شجاعة وتعويداً للنفس على تحجيم دور الغضب، وكبت جماحه حتى لا يكون أسداً في دواخلنا ويجعلنا في حالة هجوم دائم على الغير، لنثبت أننا ملوك المكان وأسياد الزمان وأباطرة الأحداث.
أعجبتني قصة تروى عن صديقين يسيران في الصحراء فضرب أحدهما الآخر فكتب على الرمل «اليوم أعز أصدقائي ضربني على وجهي»، ثم استمرا في السير في واحة فعلقت رجل المضروب وكاد أن يغرق فأنقذه الضارب وكتب على الصخر «اليوم أعز أصدقائي أنقذ حياتي»، وحين سأله صديقه متعجباً: لم كتبت الأولى على الرمل والثانية نحتها في الصخر؟ فأجابه: نكتب الإساءة على الرمال عسى ريح التسامح أن تمحيها، وننحت المعروف على الصخر حيث لا يمكن لأشد ريح أن تمحيه».
تعلمنا أن التسامح له غاية ووظيفة، وهو ما قاله لي أحد الأصدقاء «في الحياة ميزانان: العدل والرحمة، فحينما تكون قادراً على العدل وتختار الرحمة، فهذا هو التسامح الجميل» ولو أن ما نعيشه من أحداث مؤذية في هذه الحياة وقابلناها بهذا المبدأ فأعتقد أن الكثير من الأزمات ستختفي، لنجد أن الحياة لا تستحق أن نتصارع من أجلها، وأن النفوس الكبيرة هي التي تصنع المستقبل، وتعلمت أنا من أبي مقولته الدائمة التي حافظت بها على علاقاتي مع الآخرين «سامحهم».

محمد عبد الله البريكي

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"