عراب الهوية

04:27 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد عبدالله البريكي
ربما كان الوقوف على الأطلال هو عامل مساهم في تشكيل هوية الشعر العربي عبر امتداده الطويل في التاريخ منذ العصر الجاهلي، فوقوف الشعراء على تلك الأماكن التي شهدت في فترة ما أحداثاً حية وواقعاً معاشاً رسخ فكرة المكان وأثره وحضوره في الشعر العربي، ويلاحظ أن الحديث عن تلك الأماكن هو حديث ذاكرة حية تتحاور مع الواقع الذي عاش تحولاً عاطفياً أو اجتماعياً أو جغرافياً، فحين رحل عنها أولئك الذين صنعوا تلك الأحداث لم يغب عنها وفاء الشاعر ولا شعره، فأتى ليقف مخاطباً ذلك المكان باثاً فيه روح المناجاة، ولذلك أصبحت الأماكن مأنسنة لها ما لها من شعور وذاكرة، وعليها ما عليها من حنين إلى الماضي، وأبو نواس حين حاول التجديد في جزئية من جسد الشعر لم يلغ تلك الجزئية وهي المكان، وإنما أراه قد طالب بتعديلها وبألا يكون الوقوف ذا قدسية لا يمكن تجاوزها في الشعر أو المساس بها فقال:
قل لمن يبكي على رسمٍ درس
              واقفاً، ما ضر لو كان جلس
جلس الشعر عبر العصور الطويلة مع المكان صغيراً كان بمدلوله الشخصي أو عاماً يتسع للجميع ويكون وطنهم الذي يبثون فيه تفاعلاتهم المختلفة، ويمارسون فيه شغبهم وحيويتهم ونشاطهم وذاكرتهم المكانية، فتصدر الشعر للكثير من القضايا الوطنية والتعبير عن الهوية الوطن الجزء وهو وطن الشاعر أو الكل وهو وطن القوم وعالمهم الذين ينتمون إليه لغة تجمعهم على كلمة وهدف .
وعلى رغم بساطة السرد والخطاب في بعض النصوص التي ربما تعمد الشعراء الإتيان بها لتكون غنائية للشعوب، إلا أن عمق المعنى أكسبها أهمية في الذاكرة العربية لتخلد في الوجدان وتتردد عبر الأزمان، وما زلنا نردد ما قاله الشاعر:
بلادي وإن جارت علي عزيزةٌ
            وأهلي وإن ضنوا علي كرامُ
وقف الشعر مع الوطن وقفة العزة والفخر والولاء، وعالج هذه القضية الكثير من الشعراء كل حسب الموقف الذي صهر فكرته وجعلها متوهجة، فهذا أبو فراس الحمداني الذي كابد الأسر وعاش في سجنه معاناة حقيقية في بعده عن قومه وعن وطنه يرى أن الغنى لا طائل منه إن لم يقف مدافعاً عن العرض والأرض:
وما حاجتي بالمالِ أبغي وفورهُ؟
              إذا لم أفِرْ عِرْضِي فَلا وَفَرَ الوَفْرُ
ولم يكن الشعر عند أبي فراس سيفاً مسلطاً على وطنه، وإنما كان درعاً يصد عن جسد أمته ضربات العدو:
وَنَحْنُ أُنَاسٌ لا تَوَسطَ عِنْدَنَا
              لَنَا الصّدرُ دُونَ العالَمينَ أو القَبرُ
تَهُونُ عَلَيْنَا في المَعَالي نُفُوسُنَا
            ومنْ خطبَ الحسناءَ لمْ يغلهِ المهرُ
وقد تربى الشعر على الوطن وتربى الوطن على الشعر، ومن خلال هذه التربية التي هي كالوازع أو صمان الأمان يقول أحمد شوقي:
وطني لو شغلتُ بالخلد عنهُ
               نازعتني إليهِ في الخلد نفسي
وتحدث الشعر بإرادة الشعوب في الحياة والعيش بكرامة، فهذا أبو القاسم الشابي في قصيدته المشهورة إرادة الحياة التي استخدمت بعض أبياتها في النشيد الوطني لبلاده مما يدلل على أن الشابي وجه رسالة للشعب في أن يقف صفاً واحداً لا يهاب الموت من أجل أن يصد أي عدوان على الوطن:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
               فلا بد أن يستجيبَ القدر
هكذا فهمنا الهوية من خلال الشعر، فهو عرابها، وهو لسان حال الأمة والمحافظ عليها وعلى منجزاتها والموحد لصفوف الشعب في وجه المعتدي الغاشم الذي يحاول أن يتسلل إلى النفوس بشتى الوسائل من أجل زعزعة الأمن وطمس الهوية .

[email protected]
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"