غرف الظلام

04:08 صباحا
قراءة 3 دقائق
لا يزال الحبل مشدوداً عند البعض لدرجة أنه في أحيان كثيرة ينقطع من كثرة الشد، ولا تزال الدائرة هي الدائرة، وشعرة معاوية لم تغب إلا عن المتحمسين للشد، ولا يفكرون إلا في استعراض عضلاتهم وقدراتهم الخارقة في الإطاحة بمن أمامهم، وإذا سألت لماذا، يقال لك إن كل هذا الاستعراض من أجل لفت نظر آسرة القلوب وملوعة المشاعر وساحرة الناس .
هذه الساحرة هي ليلى العشاق، هي غناء المرهفين في الشعور، هي التي ولدت منذ مئات السنين ولا تزال تحافظ على ألقها ورونقها، هي الواحة الخضراء التي تتدلى بأجمل الثمار، فأرضها طيبة قبلت الماء فأنبتت العشب الكثير، وعلى رنة خلخالها وقف كبار المغنين بسحرها، ووزنوا إيقاع كلامهم وموسقوه، ولذلك فإن فكرة موتها قد انتهت، لأنها لا تحمل تاريخ انتهاء صلاحية، وهذا ليس إدعاء على حب لليلى ووصلها، فهي تثبت محبتها بنفسها من خلال توافد الكثير من العشاق والخطاب إليها، وليس كما قال الأول: وكلٌّ يدعي وصلاً بليلى . . وليلى لا تقر لهم بذاكا .
كما أن الحديث عن ليلى ليس انحيازاً لها على حساب غيرها بقدر ما هو وفاء لتراث عريق متجذر في الوجدان، وكان له الفضل في بث روح الإحساس وإطراب النفوس من خلال جرس موسيقي مؤثر، فيزيل عن الحياة رتابتها ويجعلها أكثر حيوية .
الغرفة المظلمة كانت خلاصة حوار جميل ابتعد عن لعبة شد الحبال بيني وبين من تحدث عن ليلاه الجديدة التي يهواها، فحين حدثته عن ليلاي التي لا تغار من ليلاه بقدر ما تحترمها وتود أن تكون في إطارها الصحيح، كان الحديث عن الحضور والتأثير والقرب أو البعد من ليلى الأم إن جاز التعبير، فهي التي بدأت وسبقت ليلاه بمئات السنين .
قصيدة الشطرين هي التي أتت لنا بمعلقات كثيرة منذ امرئ القيس والعصر الجاهلي مروراً بعصور مختلفة إلى أحمد شوقي والمعاصرين من الشعراء، ورافقتها في جرسها قصيدة التفعيلة، وقضية النثر التي لا نزال إلى يومنا هذا وإلى القادم من الزمن في جدلية حول نسبتها إلى الشعر أو النثر، لكن النقاش ليس في هذا الجانب، إنما كان في نسبة التأثير والتفعيل، فالأولى يتمثل بها في المناسبات والأحداث الاجتماعية والعاطفية والوطنية وغيرها، وهناك أبيات كثيرة تذكر في أحداث مختلفة ويحفظها كثير من الناس، فهل يوجد في ليلى صديقي ما يجسد هذا الدور؟
الأولى ومن خلال محيطنا الذي نتحدث عنه ونتعامل معه ونقيم فيه أماسينا أثبتت قدرتها على إطراب الحضور وشد انتباههم، وأجبرت الحضور على التصفيق للشاعر وتحيته من خلال الدهشة والتخييل المرافق للجرس، أما الثانية فلا أحد ينكر أن بعض من ينتمي إليها يكتبها بلغة راقية وبصور فنية جميلة، لكنها جرسها ليس كجرس الأولى، ولذلك كانت قدرتها على إطراب الحضور ليست كسابقتها، وهذا ليس تحاملاً بقدر ما هو واقع يعرفه الكثير من كتابها، ولذلك كانت النتيجة التي وصل إليها صديقي هي "إن قصيدة النثر تقرأ في غرفة مظلمة، وشعراء العمودي والتفعيلة هم أولئك الذين يجلسون في الصفوف الأولى يتفاعلون مع بعضهم ومع المدرس، أما نحن فنجلس في الصف الأخير نكتب إبداعاتنا على الحائط، وبهذا نكون أكثر رسوخا في الذاكرة"، وأعترف بأن صديقي أراحني كثيراً من الدخول إلى الغرفة المظلمة للقراءة، لكني أقول له إنني أقرأ النثر وأستمتع به بعيداً عن الظلام، بل أنا واحد من الذين يتعاطونه وأرى أن تأثيره أكثر حين يقرأ، وكما يقال: اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية .

محمد عبدالله البريكي
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"