نحتاج إلى موقف

00:55 صباحا
قراءة 3 دقائق
ما الذي يحتاجه الشخص الذي يحضر بمحبة وشوق لفعاليات الثقافة من شعر ومسرح ورواية وفن تشكيلي وغيرها وهو يتكبد عناء الطريق، ويصارع زحمة السيارات والاختناقات المرورية لفترة طويلة متحملاً ما تسببه من ارتفاع ضغطه وسكره واكتئابه وضجره، ومقتطعاً جزءاً مهماً من وقته قد يستغله في قضاء حوائج أسرته، أو ينهي فيه مهمة تتعلق بمستقبله، أو يزور فيه أهله ومحبيه، أو يجلس في لحظات هدوء واسترخاء هروباً من رتابة الحياة والعمل؟ إنه يحتاج إلى موقف.
ربما يعتقد البعض أن الحديث سيكون عن المواقف الشعرية أو شعرية الموقف في القصيدة، سواء أكان اجتماعياً أو عاطفياً أو سياسياً أو خلافه، لكن الحديث سيكون مرتبطاً بجمهور الثقافة والأدب والفن، وتعلقه بهذا الكائن ومدى تكبده المعاناة من أجل حضور فعالياته، فقد لامست خلال تعاملي مع هذه الفئة بحكم العمل تلك المحبة الكبيرة التي تجعل البعض يقطع المسافات الطويلة، وقد يستقل البعض سيارة أجرة، وكثيراً ما كنت أنوي كتابة مقال عن هذه المحبة الكبيرة للشعر، وعن الحضور الجميل الذي تحظى به أمسيات الشعر وأسباب هذا الحضور الذي يعود الفضل فيه بعد توفيق الله للبعض إلى الاختيار الصحيح للشعراء المشاركين الذين يستطيعون إعادة الذائقة الشعرية إلى ديوانها العربي العريق، فالشعر لن يكون ديواناً مفتوحاً ما لم يكرمه أهله، وكرمهم له يأتي من خلال ما يقدمونه من وجبات شعرية لذيذة.
إن جزءاً كبيراً ومهماً من معاناة بعض محبي الشعر تكمن في المواقف، تلك التي يرمي عليها تعبه الطويل كما يرمي العاشق المكتئب والمهموم أوجاعه وألمه على صدر من يحب، ولأنها لا تتوفر بكثرة فقد أصبحت المواقف غالية ومهمة جداً، والبحث عنها أصبح عبئاً آخر يضاف إلى ما سبق من أعباء عاناها هذا المحب للشعر.
مواقف السيارات أصبحت ضرورة ملحة ومكملة لنجاح أي فعالية ثقافية أو فنية أو غيرها، فمن دون الجمهور وحضوره وتفاعله ستكون تلك الأمسيات مجرد تحصيل حاصل، وتعد فعالية باهتة ميتة إلا من وجودها في سجل بعض المؤسسات من باب التوثيق للزمن القادم، لكنها ستضر بالشعر والأدب بسبب غياب المتلقي الذي نحرص جميعاً عليه وعلى محبته، ويمثل حضوره فرحة للمكان، وإضافة مهمة للفعالية.
هناك مؤسسات مهمة جداً، وتقيم فعاليات رائعة، ويتردد عليها وعلى مكان إقامتها جمهور يتنوع ويتجدد بين حين وآخر حباً في المكان وعشقاً للنسق الأدبي الذي يفضله، لكن عدم توفر المكان يجعله في بحث متعب عن مكان قريب لسيارته، وهي معاناة متكررة ومتعبة تجعل من البعض يحضر فعالية ويتخلف عن أخرى، أو يضطر إلى الوقوف في أماكن بعيدة عن الفعالية ويطرق باباً آخر من أبواب جيران المكان، ليصل متأخراً عن لحظة الانطلاقة الجميلة والمهمة، وهذا الاضطرار ينطبق عليه قول الشاعر:

إذا ما أتيتَ الأمرَ من غير بابهِ

ضللتَ.. وإن تقصد إلى الباب تهتدي

وهذا ما يلمسه المنظم من خلال تواصله معهم وحرصه على السؤال عنهم.
هناك مساحات متوفرة لعمل مواقف تتسع للكثير، ولو تم استغلالها والبدء في تنفيذها لوفرت على المترددين على هذا الحراك الثقافي الأدبي جهداً جميلاً بدلاً من بحثهم عن موقف أو مجرد التفكير في هذا الهم المقلق، والمعاناة المستمرة، وليس من اللائق دائماً أن يطلب من هذا المحب للشعر أن يصبر على هذه المعاناة طويلاً ويتمثل بقول المتنبي:
إذا اعتادَ الفتى خوضُ المنايا

فأيسرُ ما يمرُّ بهِ الوحولُ

محمد عبد الله البريكي

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"