«الإسلام السياسي» في مهب الريح

04:14 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.علي محمد فخرو

منذ بضع سنوات، عندما نجح الإسلام السياسي في استلام السلطة في تركيا، عن طريق التنافس الديمقراطي، ثم ما لبث أن حقّق نجاحات مبهرة في إدارة عجلة الحكم بكفاءة وفاعلية مثيرة للإعجاب، سارع الكثيرون منّا في توجيه الخطاب التالي إلى العالم: انظروا إلى ما يمكن أن يحقّقه الإسلام السياسي من إنجازات اقتصادية تنموية، ومن قدرة على التعامل بمهارة مع تراث العصر في العلوم والتكنولوجيا، ومن مصالحة إبداعية مع الديمقراطية.
ومن الإسلام السياسي العربي المتزمت المضطرب في فكره السياسي طلبنا أن يتعلُّم الدرس التركي وطريقة تجاوزه للفكر الإسلامي المتخلّف من خلال ربط ما هو حيوي في التراث بما هو حيوي في العصر الذي نعيشه.
وفي الوقت ذاته هلّلنا وفرحنا بأن تركيا، الجار المسلم ورفيق الدُّروب التاريخية المشتركة الطويلة، ستنهي ضياعها في عوالم التغريب والتصّهين ونكران الهويّة الإسلامية المتجذرة في عقول ونفوس وأرواح الملايين من مواطنيها المسلمين. نسأل اليوم أنفسنا بحرقة وحسرة:
كيف انتهى ذلك الأفق الرّحب الواعد إلى حالة البؤس السياسي والأمني الذي وصلت إليه تركيا حالياً؟ وهل حقاً أنه ما كان بالإمكان تجنُّب هذا المآل الذي لا يفرح له أيُّ عربي ولا أيُّ مسلم؟
ما حرك في النفس لطرح هذه التساؤلات مشاهدة نتائج الانفجارات الإرهابية الأخيرة في أنقرة والتي أدت إلى موت العشرات وجرح المئات، والاستماع إلى مختلف المسؤولين وهم يقولون بأن من قاموا بتلك التفجيرات الحقيرة هم من الإرهابيين «الإسلاميين»، وبالتحديد أتباع «داعش».
اللهم لا شماتة، لكن منظر الجثث والأشلاء، وسماع بكاء المكلومين من النساء والرجال الأتراك في ساحة التظاهرات جعل الأسئلة تنهمر، تصرخ وتستجدي الجواب. هل هذا ردُ القدر على سلطة إسلامية تساهلت مع كل موتور جاهل، من كل أصقاع الأرض، بالمرور عبر تركيا إلى الأرض السورية كي يعيث فساداً فيها، قتلاً للأبرياء واستعباداً للنساء وتدميراً لبراءة الأطفال وتشويهاً همجياً للتاريخ والثقافة والفنون والآثار؟ وبالتالي هل قبلت هذه السلطة أن تكون شريكة، بقصد أو من دون قصد، في عملية تشويه الإسلام الذي جاءت لتحكم باسمه؟ وجعله يبدو أمام العالم كرمز للهمجية العابثة والبربرية المعادية للتحضر والقيم الإنسانية؟
هل صرخة رسالة السماء بصوت مجلجل بأن «اعدلوا هو أقرب للتقوى»، وبأنه «لا تزر وازرة وزر أخرى» تنسجم إسلامياً مع إعطاء الأولوية القصوى لإسقاط الحكم ورأس الحكم حتى ولو أدى ذلك إلى تحميل ملايين الأبرياء السوريين دفع الثمن، موتاً وتشويهاً وجوعاً وتيهاً في أصقاع الأرض وغرقاً في البحار، لأخطاء وخطايا ارتكبتها قلة من المتسلطين؟
ثم أين ذهبت دعوة الإسلام بأن «وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً»، بشأن تعاهدكم قبل بضع سنوات مع نظام الحكم في سوريا على عدم الاعتداء، وعلى حسن الجوار وعلى التعاون في مجالات الاقتصاد، وعلى هذا الوعد وذاك العهد؟
فهل تقرُ تلك الآيات وآيات الإحسان وآيات القسط والتواصي بالحق المسارات التي تعاملتم بها مع الأوضاع في سوريا، فدخلتم، كما تذكر العشرات من التقارير، لا كطرف حاضن للضحايا وساع للحلول، كما هو الواجب، وإنما أيضاً كطرف يسهل لعبة الشر والفتن الطائفية التي كانت تمارسها شتى الأطراف الخارجية والعربية والداخلية، وكطرف يغضُ الطرف عن استعمال تركيا كممر للأسلحة والمعدات والبضائع والبترول المسروق والأموال المنهوبة والتبرعات المشبوهة بألف ريبة وريبة؟

لنؤكد هنا بأننا لسنا مع هذه الجهة أو تلك، ولا ضدُ هذه الجماعة أو تلك وأننا ضدُ الاستبداد ومع الديمقراطية، ولكن المقال معني بمساءلة غياب قيم الإسلام في الممارسة السياسية من قبل حاملي لواء الإسلام السياسي. ثم إن لتركيا أهمية خاصة كونها أنها كانت حاملة لمشروع إسلام سياسي حداثي واعد وحاو لإمكانات المساهمة في إخراج المسلمين، ومنهم العرب، من تخلُّفهم وضعفهم وهوانهم على أنفسهم.
وهنا يأتي دور طرح السؤال الأساسي الكبير: هل هناك علة ذاتية متجذرة في الإسلام السياسي، فكراً وفهماً وممارسة في الواقع، كما أظهرتها تجارب الحكم الإسلامي في جمهورية إيران الإسلامية والسودان ومصر وكما تظهرها مواقف تركيا السياسية في سوريا، على سبيل المثال؟
في محاولة المرحوم محمد عابد الجابري تفسير القرآن وقراءته قراءة عصرية يؤكّد الكاتب أن سُّوره أعطت اهتماماً متميزاً لارتباط القيم الأخلاقية بالإيمان، وربطت الإيمان ربطاً محكماً بالعمل الصالح، وبالتالي جعلت صلاح العمل محكوماً بمقدار قيامه على أسس أخلاقية وممارسته حسب معايير أخلاقية.
إذاً فالإنسان ينتظر من قوى الإسلام السياسي أن تمارس السياسة حسب معايير الأخلاق والقيم المبثوثة في النص القرآني، وليس حسب معايير المصالح والتوازنات التي يتبناها الفكر السياسي الميكيا فيلي الحديث، وإلا فإنها تجرح وتشوه مسألة الإيمان، وبالتالي مسألة الدّين برمُّته والذي تدعي بأنها تحكم باسمه. ولا حاجة للدخول في التفاصيل الكثيرة التي أظهرت أن كثيراً من الممارسات السياسية من قبل قوى الإسلام السياسي لا تفي بتلك المتطلبات الأخلاقية الصارمة التي لا يكتمل الإيمان، وبالتالي الدين، إلا بها. وعليه فإنني أعتقد بأنه أذا كان الإسلام السياسي يريد أن يبقى في ساحات السياسة العربية والإسلامية فإنه سيحتاج إلى إجراء مراجعة متعمقة جريئة صادقة مع النفس لتقييم ماضيه وإصلاح حاضره وبناء مستقبله.
على هذه القوى أن تدرس تاريخ الأنظمة الشمولية، من نازية وفاشية وشيوعية وتسلطية باسم هذا الكذب أو ذاك التلفيق، حتى تدرك قبل فوات الأوان بأن تلك المراجعة قد أصبحت ضرورة وجودية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"