«كورونا» يزعزع اليقين

03:35 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود حسونة

أصبح فيروس «كورونا» المستجد حديث كوكب الأرض، احتل مانشيتات الصحف، وتصدر نشرات الأخبار، وشغل الناس بمختلف جغرافياتهم ولغاتهم ومستوياتهم المعيشية والمهنية والتعليمية في الحياتين الواقعية والافتراضية.
«كورونا»، لن يكون وباءً؛ لكنه فيروس معدٍ، حقيقة لا يمكن إنكارها، ويقيناً هو إلى نهاية، شأنه شأن سابقيه من الفيروسات الأخرى التي جاءتنا على حين غفلة، ونحن وحدنا أبناء الأرض المسؤولون عن ظهورها، فهي لا تأتي من الفضاء؛ ولكنها نتاج سلوكاتنا الحياتية والمعيشية والغذائية، وعلى الرغم من كل ذلك فإن الأمر لا يستلزم حالة الهلع والخوف غير المبررة التي أصابت البشرية؛ وكما جاء «كورونا»، سيرحل؛ بفضل تحالف العلم مع الإرادة الإنسانية التي هزمت فيروسات وأوبئة عبر التاريخ.
يستيقظ الواحد منا من نومه إلى جهازه الذكي باحثاً عن الجديد في ضحايا أو إصابات «كورونا»، وبعدها يبدأ حديثه مع الآخرين بشأن كل معلومة جديدة، وفي عمله تحل أخبار «كوفيد 19» محل تحية الصباح بين الزملاء، والكل يتبادل إسداء النصح عما يجب اتباعه؛ للهروب من مطاردات الفيروس للبشر.
هذا الفيروس، أكد لنا أن البشرية تواجه اليوم عدواً واحداً، وأن المشتركات بين أبناء آدم أكثر بكثير من الاختلافات، وأننا بالفعل نعيش في قرية كونية، تنتقل العدوى بين أركانها بسرعة لم يتخيلها أحد.
الحدود بين الدول هي مجرد حدود سياسية، ولا يمكن أن تعزل الجار عن جاره، ولا إنسان الشرق عن إنسان الغرب، ولا الشمالي عن الجنوبي.
قد يكون لكل منا لسان ينطق بما لا يفهمه الآخر، ولدينا اختلافات في لون البشرة والدين والمعتقد السياسي والعادات والتقاليد.. ولكننا جميعناً واحد، لأب واحد، ومن أصل واحد، والأمراض التي نعانيها هي ذاتها، ومهددات وجودنا لا تختلف باختلاف الجغرافيا التي نعيش فيها أو الدولة التي ننتمي إليها.
انفتحنا نحن البشر على بعضنا البعض، وأصبحت نسبة كبيرة منا تبدأ يومها في المشرق، وتنهيه في المغرب، ونسبة تقضي معظم حياتها فوق السحاب طائرة بين أطراف الأرض الأربعة، وفئات تعيش هنا وقلوبها وعقولها ومصالحها متفرقة ومشتتة في أماكن مختلفة من الكوكب، وعشنا جميعنا زمن العولمة، مدركين أن عالمنا واحد، وبعد أن تحول الإدراك إلى إيمان، جاءنا «كورونا» المستجد؛ ليزعزع اليقين، ويعزل بعضنا عن الآخر، ويفرض وقف خطوط طيران، ويجبر المتنقلين إلى إعادة النظر في جداول أعمالهم، وعلى الدول والتكتلات الجغرافية رفع درجة الحذر من المرض المتجول إلى القصوى.
هذا الفيروس اللعين كما وحدنا في إدراكنا أن الخطر واحد، يهددنا بفرقة بعد أن فرض عزل مدن وقرى، وتعطيل مدارس، وإلغاء احتفالات وفعاليات ومؤتمرات دولية، ووصل الأمر إلى الأمم المتحدة، (بيت العالم)، التي قررت وقف مؤتمراتها وندواتها وورشها الجانبية.
«كورونا»، أجبر الكثيرين على التقوقع داخل منازلهم، وغيّر في سلوكات البشر، فأصبحت تلتقي وأنت تتجول في مدن مصابة أو غير مصابة بالكثير من المكممين، وتخلت البشرية عن بعض عاداتها مثل السلام باليد والتقبيل أو العناق في التحية، وهي عادة نتمنى أن تختفي إلى غير رجعة؛ لما فيها من وقاية للناس من كل معدٍ في كل زمان ومكان.
أهل القرار يبحثون عن الوسائل الملائمة لحماية شعوبهم ومجتمعاتهم من هذا التسونامي، وأرباب المال والأعمال يبحثون عن كيفية الخروج من هذه المعركة بأقل الخسائر، والأطباء والعلماء يقضون معظم وقتهم في المستشفيات والمعامل؛ بحثاً عن اللقاح الذي يمكن أن ينجي البشرية من مخالب الفيروس اللعين، وعمالقة الصناعة يشغلهم تصنيع مواد للوقاية وتحقيق مكاسب من ملابس وكمامات ومواد مطهرة وخلافه، وأهل الإعلام يتصدر اهتمامهم ملاحقة آخر المستجدات، وتوعية الناس.
«كورونا» خطر حقيقي، ومعركة كبرى تخوضها البشرية ضده، وسوف تنتصر إرادة الإنسان في النهاية، ولكن السؤال الذي ينبغي أن يشغلنا هو كيفية الاستفادة من هذه المحنة القاسية، ليتواصل توحدنا لأجل مستقبل أفضل لأولادنا وأحفادنا، ونبذ من يحاولون استغلاله لخلق فتن سياسية، وهو الأمر الملحوظ في بيئتنا العربية دون غيرها.
ليتنا نتخلى عن عاداتنا السيئة التي تسهل انتقال العدوى من شرق العالم إلى غربه، وليتنا نغير من عاداتنا الغذائية التي تسهل إفراز فيروسات تقتلنا وتقتل غيرنا، وليتنا نوقف معاملنا عن التجارب التي قد تفرز أمراضاً جديدة. مجرد أمنيات لأجل عالم لا تتكرر فيه مأساة اليوم ومآسي الأمس.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"