أزمات النخب العربية

02:42 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

أما وقد وصلت الأوضاع العربية إلى ما وصلت إليه ، فإن محاكمة النخب العربية عن مسؤولياتها فيما يشهده العالم العربي من مأزق يطال وجوده نفسه ، باتت أمراً لا غنى عنه، نظرياً وعملياً، إذ لا يمكن أن نحاكم هذا المستوى الكارثي الذي يتعرّض له الوجود العربي، والوصول إلى استنتاجات لفتح الأفق أمام الحلول الممكنة، من دون إعادة البحث في الدور الذي لعبته النخب، من أحزاب وسياسيين ومستشارين وفاعلين اقتصاديين وغيرهم، ومعرفة مقدار المسؤولية المترتبة عليهم، خصوصاً مع حالة انسداد الأفق، وغياب أية مؤشرات لظهور نخب فاعلة جديدة، ذات إمكانات واضحة في صناعة مستقبل عربي أفضل.
وفي التطرق إلى دور النخب ، فإنه من الضروري هنا القول إن جهداً نظرياً مهماً قام به العديد من المفكرين العرب خلال العقود الماضية، في محاولة لتشريح مواقف النخب، ومستوى وعيها، ودورها في إزمان المشكلات، وعدم قدرتها على التعاطي مع روح العصر، وغيرها من القضايا المرتبطة عضوياً بمفهوم النخبة، لكن كل ذلك الجهد النظري ظلّ عاجزاً عن التأثير في مجريات الأحداث، ما يشير إلى انفصال واقع النقد الفكري-السياسي عن واقع السياسة والعوامل المؤثرة فيها.
وإزاء موضوع النخب تواجهنا مشكلة التعميم، وهو ما يتطلب درجة من التعقيد في تفكيك وقراءة حال النخب، إذ إننا نعيش في عالم متداخل يصعب فيه الركون إلى الفصل النظري التعسفي، والذي قد يرى جانباً واحداً من الواقع، ويغفل في الوقت نفسه جوانب أخرى، فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن النخب الاقتصادية العربية التي يمكن القول إنها نخب ليبرالية من حيث توجهاتها الاقتصادية، وإيمانها العميق بمبدأ التنافسية، وحرية العمل في الأسواق «دعه يعمل دعه يمر»، هي في الوقت نفسه ما زالت نخباً تقليدية محافظة، بل إنها في بعض الأحيان معادية لقيم الحداثة، وما يتفرع عنها من قيم حقوقية تتعلق بحريات التعبير، والتنظيم المجتمعي والسياسي والنقابي.
ويشير واقع الحال العربي إلى حالة انفصال بين النخب والجماهير، ففي أكثر من محطة مفصلية خلال العقدين الأخيرين على الأقل، كان واضحاً أن خيارات النخب ليس لها أي صلة موضوعية بمصالح مختلف الشرائح الاجتماعية، بل إن النخب لا تقيم وزناً، حين اتخاذ خياراتها، لردة فعل المجتمع، وكأنها باتت على قناعة تامة بأن المجتمع ليس له أي دور، وبأنه مجرد متلقٍ سلبي، وبالتالي يمكن تجاوز أهدافه وطموحاته ومصالحه، بوصفه كتلة معدومة القوة، وهذا التجاهل لمصالح الجماهير (على الرغم من عمومية هذا المصطلح) يؤكد حالة الانفصال والتعالي، والتي أثبتت الوقائع في غير بلد عربي أن تكلفتها ستكون باهظة الثمن.
وفي الأمثلة الراهنة والمؤثرة، فإن سوريا منذ عام 2001 شهدت حراكاً مهماً من قبل بعض النخب المعارضة، في سياق ما عرف ب «ربيع دمشق»، وكانت على استعداد للحوار مع النخبة الحاكمة، لمعرفتها الأكيدة بأن الحوار هو أفضل طريق للقيام بتغيير متدرج وهادئ، يفضي إلى فتح الباب، بمرور الوقت، للقوى المجتمعية، كي تشارك في صناعة مختلف جوانب الحياة، من منطق إعادة بناء قواعد العمل السياسي والنقابي، لكن النخبة الحاكمة لم تجد من ضرورة في ملاقاة تلك الدعوة، واعتبرت أنها مجرد حراك صغير لا يستند إلى أية قوة مجتمعية، وقد دفع السوريون لاحقاً، وعلى اختلاف مواقعهم، ثمناً باهظاً، لتلك الرؤية المتعالية عن المجتمع.
إن المثال السوري باعتباره مثالاً حاداً، هو ليس حالة يمكن وصفها بالاستثناء في عالمنا العربي، لكن يمكن اعتباره درساً واقعياً عن الكارثة الوطنية والمجتمعية والإنسانية التي يمكن أن تنجم عن انفصال النخب، وخصوصاً النخب الحاكمة، عن المجتمع، وعدم إيمانها بالقوى المتفاعلة فيه، وما ينطوي عليه من إمكانات، وغياب أي توقع لديها للسيناريو الأسوأ الذي يمكن أن يودي بكل التراكمات التي بناها المجتمع، وهو ما حدث فعلياً في غير بلد عربي.
لقد راهنت النخب الحاكمة على الخارج في اكتساب شرعية وجودها، وخصوصاً النخب العسكرية، التي دارت في فلك التبعية المطلقة أو الجزئية لهذه الدولة أو تلك من الدول العظمى، ولم تسعَ إلى اكتساب شرعيتها من الداخل، ومن قدرتها على بناء دولة حيادية تجاه مواطنيها، بحيث تكون الدولة هي دولة جميع المواطنين.
وفي حساب تكاليف مراجعة النخبة العربية لدورها، فإن أي تأخّر عن تلك المراجعة يعني إضاعة الوقت، وترك الواقع للمزيد من التفسخ، وهو الأمر الذي يمكن أن تتجلى نتائجه على شكل براكين اجتماعية وزلازل وطنية، من شأنها أن تدخل عالمنا العربي في دوامات جديدة من التفتت، والتي ستسعى الدول الكبرى إلى استغلالها، واللعب على عناصرها، وهو ما يبدو جلياً وواضحاً في الدول التي شهدها «الربيع العربي».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"