أزمة الدولة الوطنية العربية

03:35 صباحا
قراءة 4 دقائق
حسام ميرو

لم يعد من الممكن اليوم الحديث عن مجرد أزمة بما يخص الدولة الوطنية العربية في بعض الدول، فما تشهده اليمن وليبيا وسوريا والعراق لم يعد مجرد أزمة، بل هو سؤال وجود، بعد أن تحولت أزمات هذه الدول إلى مأزق تفجرت معه البنى المؤسساتية والمجتمعية في آن، وباتت هذه الدول أمام حالة إعادة تَشَكُّل لا يُعرف مصيرها بعد، خصوصاً أن هذه الدول باتت تُصَنَّفُ بأنها «دول فاشلة»، ضمن المعايير الدولية المتبعة في تصنيف فشل الدول، ومن أهمها فقدان سيطرة الدولة على أمنها الداخلي وحدودها.
لكن، وصول بعض الدول العربية اليوم إلى حالة الاقتتال الداخلي، وتدخل القوى الإقليمية والدولية في مجريات هذا الصراع، يجعل من فتح النقاش حول أزمة الدول الوطنية العربية أمراً مُلِحَّاً ومصيرياً بالنسبة لكل دولة عربية، وبالنسبة للأمن القومي العربي ككل، فقد كان بالإمكان تجاوز المصير المأساوي لما وصلت إليه الدولة الوطنية في بلدان «الربيع العربي» لو أن الأنظمة السياسية كانت قادرة على قراءة مستوى الأزمة وطبيعتها النوعية قبل فوات الأوان، ووصول الأمور إلى ما وصلت إليه.
تتجلى أهم أزمات الدولة الوطنية العربية في تغول النظام السياسي على الدولة، وقد كشف تاريخ هذه الدولة منذ مرحلة ما بعد الاستقلال أن النخب الحاكمة، وخصوصاً طبقة العسكر، قد راحت تبتلع الدولة، وحولت النظام السياسي نفسه إلى الدولة، ولم يعد من الممكن فصل الدولة عن النظام السياسي، وبهذا تم تهميش موقع ودور النخب الاجتماعية والاقتصادية، وجعلها تابعة للنظام السياسي، من دون إفساح المجال أمامها لتكون نخباً مستقلة في رؤيتها وتطلعاتها، والأدهى من ذلك هو إقصاء تلك النخب عن المشاركة في صنع القرار الوطني.
لقد عزل النظام السياسي نفسه عن المجتمع، ونصَّب نفسه وصياً عليه، حتى بات المجتمع مجرد بنى ديكورية لا قيمة له. وقد أوجد هذا التعالي من قبل النظام السياسي شرخاً في البنية الوطنية، وراح هذا الشرخ يتمدد مع الوقت، حتى بات ترميم هذا الشرخ أو جَسر الهوة أمراً يقارب المستحيل، وهو ما ستؤكده لاحقاً مجريات الأحداث في دول «الربيع العربي»، حيث كان العنف هو السمة الأبرز لردة فعل النظام السياسي على الحراك الاجتماعي المطلبي في انتفاضات «الربيع العربي»، في تعبير عن إفلاس بنية النظام السياسي من أي ديناميات في التعاطي مع الحركة المطلبية للفئات المجتمعية التي لم يعد لديها ما تخسره، بعد عقود من التهميش والإخضاع.
وفي إطار إحكام النظام السياسي قبضته على مفاصل المجتمع والدولة، راح يتمترس وراء الأيديولوجيا، متبنياً قضايا كبرى ظاهرياً، متناسياً أن شرعية أي نظام سياسي تبدأ من قدرته على إطلاق قاطرة التنمية على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، وإيجاد مستوى مقبول من العدالة الاجتماعية والقضائية، وفتح المجال أمام حرية الرأي والتعبير والإعلام، لكن ما افتقده النظام السياسي في حقيقة الأمر هو تلك الشرعية الداخلية نفسها.
لقد كشف مسار الانتفاضات العربية مدى تطابق النظام السياسي في وعي العامة، وهو تطابق لا يخلو من صحة، فقد لجأ النظام السياسي في خِضَمِّ مواجهته للانتفاضات الشعبية إلى تسخير أجهزة الدولة المختلفة من أجل وأد الحراك الطامح إلى تغيير النظام السياسي، وبدت المؤسستان العسكرية والأمنية تابعتين للنظام السياسي، بدلاً من أن تكونا مؤسستين مستقلتين، مهمتهما الدفاع عن الوطن وأمن المجتمع، وراحتا تسهمان في الحفاظ على النظام السياسي من خلال قمع الحراك الشعبي، وكأنهما مؤسستين خارجيتين لا تنتميان إلى المجتمع، وغير مهتمتين بالنتائج الكارثية لوقوفهما كطرف في الصراع الوطني، والمثال الأبرز في هذا السياق هو المثال السوري.
إن الدولة الوطنية بالمفهوم الحديث هي دولة حيادية، ويجب ألا تكون خاضعة لحزب أو فئة اجتماعية أو دينية أو إثنية، أي أنها دولة جميع المواطنين، وأي انتقاص من المفهوم الحيادي للدولة نظرياً أو عملياً هو مقدمة لشرخ بين الدولة والمجتمع، ومقدمة لاحتكار النظام السياسي للسلطة، وهو ما يؤسس عملياً لأزمات بنيوية قابلة للتفجر حين تصاب الفئات الاجتماعية الأكثر تضرراً باليأس من تغيير المعادلة، ولا تجد أي وسيلة لتحقيق مصالحها، ويكون من الطبيعي حينها أن يكون الصدام بين تلك الفئات والنظام السياسي/ الدولة هو التعبير الواقعي عن مستوى استفحال الأزمة، خصوصاً مع الغياب الطويل لأشكال التعبير النقابية والسياسية.
ومن هنا، فإن إعادة النظر عربياً في العلاقة بين النظام السياسي والدولة بات أمراً ضرورياً ومُلِحَّاً من وجهة نظر وطنية أولاً، ومن وجهة نظر متعلقة بمخاطر الأمن القومي العربي ثانياً، فالدولة الوطنية العربية تعيش في محيط إقليمي مضطرب، وبالتالي فإن الأزمات الوطنية لكل دولة تصبح أزمة عربية وإقليمية، ومقدمة لتدخلات خارجية، وقد يكون من الصعب في لحظة تفجر الأزمات توقع مدى انعكاساتها، ومدى استثمار الخارج لها، وقبل كل ذلك قدرة المجتمعات نفسها على معالجة تلك الأزمات، خصوصاً في ظل عدم حيادية الدولة الوطنية، وتحولها إلى تابع للنظام السياسي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"