ألغاز سياسية

03:31 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

يسألون الأسئلة المعقدة.. في الشمال المتقدم كما في الجنوب ناقص التقدم والجنوب المتخلف ازداد بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة طرح أسئلة غير عادية على أهل الفكر والدين والسلطة. عشت ولم يكن يفاجئني السؤال عما إذا كنا نحيا حياة أفضل من الحياة التي عاشها أجدادنا. الآن تقلقني كثرة ترديده والصعوبة المتزايدة في استحضار الإجابة المناسبة، وإصرار السائلين على الحصول عليها. ناقشت الأمر مع عقلاء وتوصلنا إلى اجتهادات لم يقنعني واحد منها.. ناقشنا أسئلة أخرى.
يسألون إن كانت الحاجة إلى البشر لم تعد ملحة كما كانت.. قلة ضئيلة جداً تسكن معامل البحث العلمي لم تعد تخفي نواياها أو نتائج بحوثها وتجد التشجيع من أقليتين أخريين، هما قيادات التخطيط في المؤسسات العسكرية ورجال أعمال مغامرون. هذه المجموعات الصغيرة في دول متقدمة تكنولوجياً وطموحة سياسياً واقتصادياً تقود حملة تصاعدية للتبشير بعالم جديد يعتمد الذكاء غير البشري بديلاً أعظم نفعاً وأقل تكلفة من الذكاء البشري. هل نحن على أبواب مرحلة ستتغير فيها طبيعة الطلب على بشر من بشر يستهلكون وينتجون إلى بشر يستهلكون ولا ينتجون؟!
شيء مشابه يحدث في عالم السياسة. يقف الناس عاجزين عن فهم ظواهر استجدت خلال السنوات الأخيرة وتطورات معقدة في علاقاتهم بالسلطة أو حتى ببعضهم البعض كمواطنين في دولة واحدة. أتحدث عن أسئلة مطروحة في الغرب وفي الشرق أيضاً، مطروحة في أمريكا وفي العالم العربي في الوقت نفسه. هذه بخلاف أو إلى جانب أسئلة خاصة بظروف كل إقليم على حدة أو بحالة بلد بعينه.
يسألون، ماذا جرى للديمقراطية في الغرب؟ نراهم في الغرب يتعاملون معها، مع قيمها ومؤسساتها ورموزها بدرجات من الاحترام تتدنى باستمرار.
سُئلت عن المكانة الراهنة لقيم الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية، وعن مبادئ وأخلاقيات الديمقراطية الأمريكية، كما سجلها بالمشاهدة والممارسة الكاتب الفرنسي دي توكفيل في القرن التاسع عشر وسقيناها ونحن طلاب مدارس وجامعات وتلاميذ سياسة. هنا أيضاً جاء السؤال في صيغة الاستنكار كالسؤال عن ديمقراطية ويستمنستر. طلبوا مني الرأي في نوع الديمقراطية التي تسمح بأن تتعامل مؤسسات الدولة بجدية مع تغريدات الرئيس المزاجية التي يغردها كل صباح، باعتبارها قرارات وتوجيهات رسمية، وإن تناقضت مع سياسات الدولة وقواعد العمل الدستوري.
هل أنكر أن عطباً دائماً أو مؤقتاً أصاب الديمقراطية الأمريكية يوم احتل دونالد ترامب منصب الرئيس، وفي نيته تخريب نظام دولة ونظام دولي وإقامة شيء آخر هنا وشيء آخر هناك؟ لا لن أنكر بل وأضيف بأن هذا العطب الذي أصاب نموذجي الديمقراطية الغربية كان له أثره المباشر في سباق القوة العالمي وعملية تفكيك هياكل النظام الدولي القائم وانتشار الفوضى مهددة استقرار أوروبا ومتسببة في خراب هائل في الشرق الأوسط.
سئل أحد علماء الاجتماع عن مستقبل الفساد في الولايات المتحدة، وبخاصة بعد عهد وهيمنة ما صار يعرف بإمبراطورية ترامب الصغيرة. هناك الدولة تشرع القوانين التي تجعل الفساد مشروعاًَ.. بليونير يدفع أموالاً مشروعة لمرشح رئاسة فينجح المرشح ويحصل البليونير على سفارة في «إسرائيل» ليشترك من هناك في تنفيذ صفقة هي الأقدم في تاريخ الصفقات، صفقة في الأصل دينية.. لا فساد في الظاهر فالتمويل قانوني وتعيين السفير حق رئاسي مشروع وإخضاع الطرف الآخر فلسطينياً كان أم عربياً أم إسلامياً وظيفة دولة عظمى.
ما السر وراء المزاج الانفراطي في العالم ككل والشرق الأوسط كحالة خاصة؟ نستطيع بشيء من الثقة الإجابة عن سؤال لا يقل شهرة، وهو السؤال عن السر وراء الصعود المفاجئ للهويات الثانوية.. إنه تاريخ ما بعد الاستقلال العربي.. ماذا يخفي المستقبل للعرب؟ تتربص بهم مستغلة انفراطهم ثلاث قوى إقليمية كبرى، لا تخفي إحداها الحنين إلى قرون تحكمت فيهم وحكمت. وقوتان من الثلاث راحتا تفرضان بالفعل وبالأمر الواقع توسعهما وإرادتيهما. لم تنتظر واحدة من الثلاث معرفة ما قرره العرب في شأن مستقبلهم، أو لعلهم عرفوا أن العرب لم يقرروا لأنهم لم يجتمعوا، وأنهم حتى لو اجتمعوا وهم منفرطون فلن يصدر عنهم إلا التنديد.
أي مستقبل ينتظر سوريا وينتظر الأكراد والأتراك وينتظر ملايين المهاجرين واللاجئين المقيمين في معسكرات على أراض عربية أو غير عربية. أي مستقبل ينتظر عرب فلسطين وعرب اليمن وأكراد العرب وعرب الأكراد وعرب وأمازيغ شمال إفريقيا.
أي مستقبل لشرق أوسط عادت لتتقاسمه نظرياً أو بالفعل دول عظمى ودول أقل من العظمى ودول لم تكن عظمى ولن تكون. يسألوننا وكأننا نملك إجابات عن أسئلة هي بين الأعقد. هل بيننا من يشرح لنا كيف أتيح لداعش وتنظيمات أخرى الاقتحام الآمن والخروج وهو أيضاً آمن؟ هل من راو يحكي لنا قصة داعش وإخوانه، القصة الحقيقية، وهل من سياسي أو مفكر يتنبأ بمستقبل الاستقرار العربي وعشرات الألوف من جنود «داعش» وعائلاتهم يجوبون صحاري الدول أو تسربوا إلى مدنها. وأسئلة أخرى كثيرة... أسئلة كالألغاز.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"