أمن الغرب في لحظة فارقة

03:01 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

اللحظة بالفعل فارقة، فالرؤى لم تكن متباعدة كما هي الآن، والتوقعات عن المستقبل تجاوزت حدود الخيال العلمي. وقف الناس مشدوهين إعجاباً واستنكاراً وارتباكاً أمام عبارة أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ليعلن موت الحلف دماغياً.
في الوقت نفسه كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلقي خطاباً أمام مجلس الأمن الروسي يحذر فيه صناع قرار الحرب والسلم في الاتحاد الروسي من الخطر المتجدد الذي يهدد أمن روسيا. جاء تحذيره مركزاً في ثلاث نقاط. تحذر الأولى من التوسع عموماً في عضوية النادي النووي، ملمحاً إلى أن الناتو يتغافل عمداً عن جهود دول جديدة تسعى لحيازة أسرار القوة النووية. تحذر الثانية من أن البنية التحتية لحلف الأطلسي تقترب من «حدودنا». يقصد بوتين القول إن القائمين على قيادة الناتو تجاوزوا المحظور حسب التفاهمات الأمنية بين الطرفين. يحذر ثالثاً من كثافة الجهود التي يبذلها الآن المخططون العسكريون في الحلف الأطلسي نحو تحقيق هدف عسكرة الفضاء الخارجي.
في مناسبة أخرى اجتمعت في برازيليا قمة دول مجموعة البريكس المشكلة من البرازيل وروسيا والهند والصين واتحاد جنوب إفريقيا. هناك في قلب الأمريكتين، عالم كان إلى عهد قريب يبدو بعيداً عن الاهتمامات الأمنية لدولة آسيوية، راح الرئيس الصيني شي يخطب في القمة محذراً من وضع دولي مشبع بعدم الاستقرار ومحاط بصعوبات تحول دون توافر عنصر التأكد، الذي هو ضرورة لا غنى عنها لصانع القرار الأمني. انتهز الرئيس الصيني فرصة وجود الرئيس الروسي ليحثه على مأسسة التنسيق الاستراتيجي بين الصين وروسيا لتحقيق ما يلي، أولاً: صيانة وحماية المبادئ التي تحمي عمل منظومة العلاقات الدولية، ثانياً: تأكيد الموقف المعارض لإقامة نظام دولي أحادي القطبية. ثالثاً: الاستمرار في مناهضة سياسات التدخل في الشؤون الداخلية للدول. رابعاً: ضمان السيادة والأمن لكل دول العالم. خامساً: العمل المشترك لتوفير بيئة دولية عادلة ومنصفة.
لاحظنا وقتها كيف استفاد الرئيس بوتين من فرصة الرد على الرئيس الصيني معيداً التأكيد أن الدولتين تحتفظان بتوافق مهم ومصالح مشتركة للمحافظة على الأمن والاستقرار الدوليين، وسوف تستمران في المحافظة على دعم سبل التواصل الاستراتيجي بينهما. لاحظنا أيضاً كيف أن جهات في الدولتين أو في إحداهما على الأقل سربت معلومات عن أن تحديث الأسلحة في الترسانة الروسية الراهنة قد تجاوز نسبة السبعين في المئة، وأن روسيا واعية تماماً بكل ما تخطط له عسكرياً الولايات المتحدة في أفغانستان. جاءت أيضاً الإشارة واضحة للنشاط العسكري في طاجيكستان خاصة في مجال التشويش الإلكتروني على مختلف نظم إطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة.
هنا لا يفوتني أن أربط بين الاهتمام الصيني والروسي بمنطقة وسط آسيا في برامجهما الأمنية وبين ما أعلنه الرئيس التركي الطيب أردوغان في مؤتمره الصحفي المصغر الذي عقده عقب عودته من رحلته «المنصورة» إلى قمة الناتو في لندن، قال إنه يستعد ليعقد في تركيا بعد أيام قليلة مؤتمر قمة لدول وسط آسيا المعروف بقمة قلب آسيا. المثير في هذه الحال معرفة النوايا التركية وتوقعات أردوغان من المؤتمر بالنظر إلى الأدوار المتعددة للغاية التي صارت تمارسها تركيا في أوروبا والمتوسط والشرق الأوسط ووسط آسيا في آن واحدة. سوف يكون مثيراً أيضاً، بل وهو بالفعل مثير الآن، أن نعرف علاقة كل هذا بالسؤال الذي نسعى في مقالنا هذا للإجابة عنه، في أي اتجاه تميل دفة قارب الأطلسي، نحو سياسات تنم عن عقل غائب أو ميت، أو على العكس وكما يستدل من تصريحات الرئيسين بوتين وشي وخطاب الأمين العام للناتو في افتتاح قمة لندن، نحو منظومة أمنية غربية فاعلة وقوية؟
المعروض من مواقف وسياسات من جانب أهم الأعضاء في الحلف لا يساعد على التوصل إلى إجابات سريعة تتعلق بمستقبل أداء الحلف. لا نزال أمام طرفين رئيسيين تسببا في الارتباك الراهن، دونالد ترامب من ناحية والسياسة الفرنسية من ناحية أخرى. لا يستطيع محلل أن يقرر أن لأمريكا اليوم وتحت حكم الرئيس ترامب سياسة واحدة محددة المعالم تطبقها مع حلف الأطلسي.
يذهب الفرنسيون- كما نعلم- بعيداً في الميل نحو الاستقلال الأوروبي عن أمريكا بمسؤولية الأمن الأوروبي. مشكلة الفرنسيين متجذرة هي الأخرى في تراث الحرب والسلم في القارة العجوز. لا أحد، أو القليل من المتمرسين في شؤون القارة، يثقون بالسياسة الفرنسية وأقل جداً هم الذين يؤمنون بإمكان الاطمئنان إلى شبكة أمن تعتمد على علاقات تقوم على الثقة المتبادلة بين ألمانيا وفرنسا. ثم إنه في باريس كما في عواصم أوروبية كثيرة يثار دائماً السؤال عما إن كانت الولايات المتحدة سوف تبقى في الأجل المنظور دولة «أوروبية»، بينما المؤشرات كافة تشير إلى أنها تسرع الخطى نحو تركيبة سكانية مختلفة، والشواهد تؤكد أيضاً أن تغيرات مهمة وقعت بالفعل في الثقافة السياسية الأمريكية ولم تنتظر التغير الجوهري في ديمغرافية الأمة.
الألمان لا يريدون للحلف الأطلسي بديلاً. هم سعداء بما حققه لهم. منحهم الأمن اللازم لبناء أكبر قاعدة صناعية في أوروبا بعد الحرب.
أتصور أن تفوز، في الأجل القصير، القوى الأوروبية الحريصة على المحافظة على استمرار حلف الأطلسي في أداء بعض أدواره بعد تطويرها أو تصحيحها. طبيعي أن تبقى روسيا والصين تعملان على إثارة الوقيعة بين صفوف دول الحلف وإضعاف النفوذ الأمريكي في القارة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"