أنوار ساطعة وسط الضباب

05:17 صباحا
قراءة 4 دقائق

تتميز الحياة المصرية في هذه المرحلة بعدد من الخصائص التي تستحق البحث والدراسة، أولها إحساسٌ بأن مصر مستهدفة من اتجاهات كثيرة، وثانيها شعورٌ بنوعٍ من الإحباط والاستغراق في جلد الذات، وثالثها طبقاتٌ من الضباب الكثيف الذي تحجب غلالاته الرؤية نحو المستقبل. وإذا كنا نسلم بالخصوصية القطرية لكل دولة على اعتبار أن شخصية الشعوب تتمايز وتختلف وفقاً لظروفها التاريخية وأوضاعها الجغرافية وما يحيط بها من مناخٍ عام إقليمياً ودولياً، إلا أننا ندرك أن الحالة المصرية تبدو محتاجةً إلى إسعافٍ سريع يمنع عنها موجات الشطط ونوبات اليأس ومحاولات من لا يريدون لها خيراً.

وبالمناسبة فإن مصر مستهدفة عبر تاريخها الطويل كما أنها دولةٌ محورية في موقعٍ مفصلي بما يضفي عليها كماً هائلاً من الضغوط الخارجية مثل تلك التي عصفت بمشروع محمد علي التوسعي ومشروع جمال عبدالناصر القومي، بل إن الكثير مما يبدو مقبولاً في الدول المحيطة ويجري التهوين منه لدى الغير يتم التهويل فيه عندنا، فإذا قلنا إن المظاهرات والاعتصامات والإضرابات والاحتجاجات ظواهر ديمقراطية عادية في دول العالم المختلفة فإن الأمر يختلف بالنسبة لمصر، إذ يجري استخدام مثل هذه الأحداث للتبشير بحالة فوضى والادعاء أن مصر تواجه كارثة، كما أن الإيجابيات قد ضاعت تماماً في زحام الحديث عن السلبيات، بل إنني أشفق أحياناً على أجيالنا الجديدة وهي ترى الصورة محبطة تماماً وكأن المستقبل مظلم أمام من يبدأون الحياة في مقتبل العمر ومستهل الرحلة على ضفاف النيل، ولعلي أفرد الآن شيئاً مما أوجزت في هذه المقدمة موضحاً الملاحظات التالية:

لا أفترض أن الصورة براقة وأن الأوضاع وردية وأنه ليس في الإمكان أبدع مما هو كائن، بل إنني صاحب الحديث المتكرر عن الاشتباكين، اشتباك السلطة والثروة الذي أنتج الفساد المالي والإداري، واشتباك الدين والسياسة الذي أدى إلى الغلواء والتطرف وضرب الديمقراطية في مقتل، فالشعارات الدينية تستهوي الناس في شعبٍ متدين بطبعه مؤمن بفطرته فلا يحسنون الاختيار أحياناً كما تستعدي الحكومة على الجانب الآخر فتحاول تعطيل وصول من يرفع تلك الشعارات، ولقد تفاءل الكثيرون بدخول رجال الأعمال وما أكثر الشرفاء منهم إلى ساحة العمل السياسي، ولكن الأمر قد أضحى بحاجة إلى شجاعة المراجعة لنكشف سلبيات التجربة على المستويين التنفيذي والتشريعي.

تشهد الساحة السياسية المصرية نوعاً من الترقب والانتظار وافتقاد الشعور بالأمان وهو أسوأ شعورٍ ينتاب البشر، لذلك كثر الحديث عن تراجع الدور واختفاء التأثير وسط كم هائل من التفسيرات والتأويلات والشائعات، ولا بد أن أعترف هنا بأن الصحافة المصرية قد لعبت دوراً في ذلك مستخدمة اتساع مساحة حرية التعبير خصوصاً المكتوب في السنوات الأخيرة، وفي ظني أننا لن نستطيع مواصلة المطاردة المتبادلة بين الحكومة والمعارضة الدينية تحديداً بل إنني أظن أنه قد آن الأوان لاتخاذ وقفة موضوعية يتم بها إجراء مصالحةٍ وطنية شاملة تؤدي إلى الاعتراف بكل القوى السياسية شريطة إيمانها بالوطنية المصرية، والتزامها بالروح القومية وقبولها للديمقراطية الحديثة مع التسليم المطلق بمبدأ أن الأمة هي مصدر السلطات.

إنني أتحسس وسط الظلام محاولاً استشراف روح المستقبل من خلال التركيز على عددٍ من الإيجابيات على الجانب الآخر من شاطئ السلبيات التي تلوث نهر الحقيقة وتدفعنا إلى الوراء، فهناك مؤشراتٌ موثوق بها تتحدث عن تحسنٍ في الاقتصاد المصري وحدٍ أدنى من التأثر بالأزمة المالية العالمية، وهناك أيضاً وعيٌ شامل بضرورة تماسك الجبهة الداخلية والإصرار على الوحدة الوطنية لأن الجميع يدركون أن قوة مصر الحقيقية تكمن في تجانسها البشري وتوحدها الإنساني وابتعادها التاريخي عن التعصب أو الطائفية بمنظوريها الديني والسياسي.

إنني أشعر أن العلاقات المصرية العربية تمر بأزمة حقيقية لها انعكاساتها على مسار الأحداث في المنطقة بل وعلى الشارع المصري وجالياته المتناثرة بين دول الأشقاء العرب، وتكمن المشكلة في ظني أن كل طرف يقول جزءاً من الحقيقة، ولكن لم تتمكن مصر والعرب حتى الآن من صياغة رؤية مستقبلية شاملة تقوم على توزيع الأدوار وتؤمن بالعمل العربي المشترك وتقف على أرضية عربية حقيقية لا تستجيب للاستقطاب الإقليمي ولا تتحول إلى جزءٍ من أجنداتٍ خارجية، وإذ إنني واحدٌ من المهتمين بالعمل العربي المشترك والفكر القومي بمعناه الشامل منذ صدر شبابي فإنني أقرر صراحةً هنا أن تردي الأوضاع في المنطقة العربية يرجع إلى سوء الفهم المتبادل بين مصر وأشقائها مع غياب الإرادة السياسية القطرية الساعية إلى الإصلاح والراغبة فيه، ولن ينصلح الحال إلا إذا اتفقنا على حق الاختلاف وأدركنا أن توزيع الأدوار لا يستتبع بالضرورة محاولات التكفير أو التخوين أو الحرب الإعلامية، فالعالم يتغير حولنا ولا يمكن أن نتعامل في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بأسلوب ستينات القرن الماضي لأن الخمسين عاماً الأخيرة قد قفزت بالفكر الإنساني والتكنولوجيا الحديثة بما هو أكثر وأكبر وأضخم مما حققه الإنسان في الخمسمائة عام السابقة عليها!

إن الجيش المصري يمثل وعاءً تاريخياً لوحدة هذا الوطن ويتقدم مؤسساته الراسخة بانصهار وصلابةٍ وقوة فهو لا يعرف العنصرية ولا الطائفية ولا القبلية لذلك يبقى درعاً لمصر في الحروب وسنداً أمام النوائب والخطوب، وليست القوات المسلحة هي المؤسسة المصرية الوحيدة وإن كانت أعرقها وأقدمها وأكثرها تماسكاً وانضباطاً ولكنها تبقى مؤسسةً راسخة خرجت من صفوف الشعب المصري وارتبطت به وسوف تظل دائماً ركيزة له.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"