إحياء المجتمع السياسي

02:27 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

أمام الأحداث العاصفة في العالم العربي منذ عقد من الزمن، لا بد من التوقف ملياً عند طبيعة المنظومات السياسية التي حكمت دول المنطقة لعقود طويلة، وإعادة النظر في الأولويات التي طرحتها تلك المنظومات، ومقاربة مدى تطابقها مع الاحتياجات الحقيقية للمجتمعات؛ بل إنه أصبح من الضروري العمل فكرياً على إعادة تعريف مجتمعات العالم العربي، وفق الوقائع الجديدة التي أفرزتها السنوات الأخيرة، وأيضاً وفق المنظومات الحقوقية التي أمست بمثابة معايير عالمية لا يمكن تجاهلها.
إن العمل وفق القاعدة التي تقول إن النخب السياسية التي حكمت دول العالم العربي هي الابنة الشرعية للمجتمعات العربية، لن يكون ممكناً بعد اليوم، فهذه القاعدة لا تلحظ مستويات الانفصال التي حدثت بين النخب السياسية وبين مجتمعاتها، كما أنها تحمل المسؤولية للمجتمعات، بوصفها السبب الرئيسي في «الاستنقاع» السياسي والمجتمعي، وهو أمر يتناقض كلياً مع الكيفية التي تحولت فيها النخب السياسية إلى كيانات وظيفية غير مرتبطة بمجتمعاتها، وذات مهمات خاصة في إدارة المجتمعات، عبر ما حازته من فائض النفوذ والقوة والإمكانات المالية والتحالفات الإقليمية والدولية.
ثمة أمثلة حاضرة بقوة في اللحظة الراهنة، ولا يجوز القفز فوقها في أي تحليل، من بينها المثالان العراقي واللبناني، حيث تؤكد الاحتجاجات فيهما وجود حس عالٍ بالوطنية، ورفض مطلق للطائفية، في بلدين محكومين بنظامين سياسيين بُنيا أساساً على المحاصصة الطائفية المكرسة دستورياً، وفق ما يسمى «الديمقراطية التوافقية»، باعتبارها نظاماً تمثيلياً للمجتمع، يضمن مستوى من العدالة في الحكم والإدارة والوظائف، لكنه في الوقت نفسه يكرس مفهوماً للمجتمع على أنه طوائف، غير قابلة للتعايش سوياً، وعاجزة عن إنتاج انتماءات أعلى من هوياتها الفرعية.
تثبت الاحتجاجات في لبنان والعراق أن المجتمع هو الخاسر الوحيد من صيغة النظام السياسي القائم، وأن هذا النظام السياسي موجود فقط لخدمة طبقة سياسية محدودة مُنحت لظروف تاريخية مركبة حق تمثيل المجتمع بطريقة مشوهة وخاضعة لاشتراطات الخارج قبل الداخل، وبالتالي فإن الطبقة السياسية في حقيقة الأمر موجودة بدرجة كبيرة ضمن توازنات المصالح الإقليمية والدولية، قبل أن تكون نتيجة لقدرتها على تمثيل مصالح الفئات التي تَحكم باسمها.
إن شرعية النظام السياسي في الدول الحديثة تأتي من مطابقته لاحتياجات المجتمع في المجالات كافة، وقدرته على تحقيق مصالح جميع الفئات، ليس بوصفها كتلاً معزولة، وإنما بوصفها منظومات تفاعلية قادرة على إنتاج مفاهيم مشتركة، هي بمثابة قيم مشتركة لها، من بينها وأهمها مفهوم المواطنة المتساوية، وهو المفهوم الأكثر حضوراً اليوم كمعيار أساسي من معايير تقدم الدول، ومعيار للحريات والحقوق.
لقد قامت معظم النخب الحاكمة العربية بتحويل المجتمعات إلى كيانات معزولة عن بعضها بعضاً، حتى إن المجتمعات العربية لم تعد تمتلك من صفة الاجتماع إلا حدودها الدنيا.
المجتمع، والاجتماع، والتواصلية كفاعلية منتجة، وإنتاج انتماءات عليا، كلها مفاهيم تنتمي إلى حقل المصالح المادية والمعنوية، ومدى تحققها يعكس مدى تطور الأنساق المجتمعية، وهو التحقق الذي لا يمكن أن يحدث بعيداً عن حقل الاجتماع السياسي، على اعتبار أن السياسة بمعناها الحديث هي تكثيف أعلى لمجمل الحراك الاجتماعي الاقتصادي.
إن استقرار الأنظمة السياسية يشير إلى أحد احتمالين اثنين: الأول هو أن هذه الأنظمة حيوية، وهي نتاج مجتمع تفاعلي، والاحتمال الثاني أنها تمكنت من قتل أي حيوية لمجتمعاتها، وغالباً ما يصل هذا النمط من الاستقرار إلى مأزق وجودي، خصوصاً عندما تصل الفئات المجتمعية إلى حالة من اليأس، ولا يعود لديها ما تخسره، فتكون المواجهة بينها وبين النظام السياسي، وقد تتحول هذه المواجهة إلى موجة من العنف نتيجة تعنّت وانفصال النخبة السياسية عن واقعها.
إن الاحتجاجات التي طالت وتطال عالمنا العربي تعبّر بوضوح عن المأزق الذي أوجده غياب السياسة عن المجتمع، حيث أصبح الاحتجاج والمواجهة مع النظام السياسي هو الخيار الوحيد أمام المجتمعات، وهو خيار على الرغم من تكاليفه الباهظة فإنه يعيد إحياء المجتمع بصفته كائناً سياسياً، وهو في هذا الإحياء يعيد تعريف جملة من المفاهيم الكبرى، مثل الدولة، والنظام السياسي، والوطن والمواطنة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"