إلى المريخ . . ذهاب بلا إياب

04:07 صباحا
قراءة 4 دقائق

منذ زمن بعيد والإنسان ينظر إلى السماء، يتأمل في عظمتها، يحار في اتساع مداها ويشعر بضآلته أمامها . ولقد سلبت السماء بعجيب خلقها الذي يتجاوز مدارك البشر قلوب الناس فصارت الملاذ لكل من يريد أن يطلق لخياله العنان عبر اللاحدود .

واليوم ما زالت السماء تشد إليها البشر كما كانت في الماضي، فقد كان العرض الذي قدمته شركة مارس وان الهولندية مؤخراً مغرياً لكل خيالي حالم، حين دعت الناس للذهاب إلى المريخ من دون تذكرة عودة ليقيموا مستعمرة للبشر على سطح الكوكب الأحمر .

رحلة إلى الفضاء البعيد ولا عودة! ما يعني أن من يريد الذهاب إلى المريخ لن يعود إلى الأرض ثانية، وأن عليه التأقلم مع حياته الجديدة وتدبير أموره واتقاء المخاطر المحتملة .

إني أتساءل؛ أي فاقد عقل يمكنه أن يقرر الذهاب في رحلة إلى الكوكب الغامض من دون أن يفكر بالعودة ؟ من سيملك هذا القدر من الجرأة؟

لقد أفادت شركة مارس وان أنها تلقت حتى الآن عشرة آلاف طلب على عرضها، ما يعني أن عشرة آلاف شخص قرروا المغامرة في الذهاب إلى مكان لا عودة منه . إن مجرد الموافقة على فكرة الرحلة، يعني أن المرء سيترك خلفه كل من على الأرض وكل ما عليها، وأنه سيودع إلى غير رجعة أهله وأصحابه ومعارفه، وأنه سيودع أيضاً الأرض كوكبه الأم وإلى الأبد .

ومن المتوقع، حسبما أفادت الشركة، أن الرحلة الواحدة إلى المريخ سوف تحمل على متنها أربعة مسافرين سيعيشون هناك على النزر اليسير من الطعام المعلب، وسيشربون فضلاتهم المكررة عوضاً عن الماء!

أما بالنسبة لإمكانية العودة إلى الأرض، فهي شبه مستحيلة، لأن شركة مارس وان أوضحت أن الشخص الذي سيذهب إلى المريخ، سوف يعتاد العيش على كوكب تبلغ جاذبيته 38 في المئة فقط من جاذبية الأرض، لذا فإنه من الناحية الفيزيائية لن يحتمل العيش على الأرض ذات قوة الجاذبية الكبيرة ثانية .

وقد صرحت الشركة بأن المشروع ستموله الجهات الإعلامية، وأنها تنوي بث برنامج عبر تلفزيون الواقع ينقل يوميات سكان المريخ (المتحولين) الذين غادروا الأرض بملء إرادتهم ليعيشوا بقية عمرهم في الفضاء البعيد .

بالطبع، سوف يصبح هؤلاء البشر من المشاهير، لكن من سيقابلهم على الأرض؟ أتوقع أن يخلق المشروع ضجة إعلاميّة، لكنها ضجة ستفتقر إلى النزاهة وستظهر الجانب المعتم من محاولة سيطرة البشر على أبعاد الكون واستغلالهم السافر لها .

لكنني مع ذلك، أستهجن أنني كلما فكرت بتلك الرحلة وكلما تأملت في معطياتها أكثر، كلما وجدت فيها شيئاً من المنطق . فالإنسان الذي عمل على تدمير الأرض ونشر فيها الأوبئة والأمراض ويعرف حكماً أنها آيلة إلى الزوال، يفكر اليوم في الهروب من كل الدمار الذي تسبب به ليبدأ حياة جديدة بعيداً عن الأرض .

إن هذه الناحية المنطقية قد تكون مقنعة بما فيه الكفاية ليرحل الناس على متن مركبة صغيرة مزودة بأحلامهم وأمانيهم الكبيرة ونظرتهم المتفائلة والساذجة في نفس الوقت ليُلقى بهم في غياهب السماوات العذارى .

إن النظر في المسألة كلها سيكون من جانب واحد، فلو فكرنا في أن الرحلة ليست سوى هروب من واقع نعيشه، فإننا سوف نكتشف مدى غرور النفس البشرية، وسوف نرى أنّ الإنسان لم يكتف بغزو الأرض وأنه يسعى كذلك إلى غزو السماوات . إن نرجسية الإنسان تدفعه لغرس علم في أراض غريبة وتجعل قلمه مستعداً لرسم حدود لتقسيم أيّ مكان يختار العيش فيه . وسوف نعرف بعد كلّ هذا أن الموضوع لا يتعلق بالرحلة بحد ذاتها بقدر ما يتعلق بالغنائم التي سوف يتم الحصول عليها .

إذا كنت شخصاً رومانسياً، فإنك حتماً سوف تجد في الرحلة إلى الكوكب الأحمر نوعاً من الاستكشاف والمغامرة، كما يمكن أن تكون الرحلة تحقيقاً لحلم بدأ صغيراً كما بدأ حلم ليوناردو دافنشي برسم بسيط في مفكرته .

من ناحية أخرى، يمكن أن تعيد هذه الرحلة للبشر ثقتهم بعزيمتهم وقدرتهم على الإنجاز بعدما بدا لهم أنهم لا يصنعون إلا الموت والدمار .

وفي النهاية، مهما كانت دوافع الرحلة، وبغض النظر عن الأضرار النفسية والجسدية التي يمكن أن تلحق بروادها المريخيين، فإن نجاح المهمة مرهون بطريقة تنفيذها، فهل سيتعلم البشر من أخطائهم الفادحة التي ارتكبوها على الأرض ويعملون على بناء ما هو أفضل على الكوكب الأحمر؟ هل سيتجاوزون خلافاتهم العرقية والعقائدية؟ هل سيتخلصون من العنصرية ويستأصلون الغل والكراهية من قلوبهم؟ هل سيزيلون عن وجوههم ملامح الجشع والطمع؟ أو أنهم سيستسلمون لضعفهم البشري وينتهي بهم المطاف إلى ما انتهت إليه رحلتهم على الأرض في عالم تسوده الفرقة ويسيطر عليه التشرذم وتؤلمه الجراح؟

ترى؟ هل سيفكر أولئك الذين تم اختيارهم للإقامة على المريخ بمدى المسؤولية التي ستلقى على عاتقهم؟ أو أنهم لن يبالوا بالأمر نهائياً؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​رئيس تحرير صحيفة Gulf Today الإماراتية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"