إيبولا ليس قدراً

03:55 صباحا
قراءة 4 دقائق

عصام الجردي

تفتك إيبولا بأعداد من مواطني سيراليون وليبيريا وغينيا . يصل الفيروس إلى الولايات المتحدة، فيستدعي الرئيس باراك أوباما فريق الطوارئ الصحي في البيت الأبيض لتعبئة الموارد على أنواعها لجبه هذا الفيروس الوافد من بلاد الملونين من أبناء جلدته وأصوله في إفريقيا . وتستنفر أوروبا، ومعها دول عديدة في العالم، قادرة بما تمتلك من إمكانات على صد الفيروس، أو تحاول ما أمكنها سبيل . ويعيش مليارات من بني البشر في حالة ذعر خشية تحول الفيروس إلى وباء . إيبولا واحد من طيف أوسع من الفيروسات التي تنبت كل بضع سنوات . قبلها إنفلونزا البقر وإنفلونزا الطيور وكورونا وغيرها من المسميات . وننتظر المزيد في ظل تغيرات مناخية وبيئية خطيرة، من دون أن يتوقف العدوان اليومي على الطبيعة ومواردها . ونزعم بحسب ما تجمع عليه كل الدراسات العلمية، أن التعاطي الجائر مع منظومة الطبيعة ومواردها، مصدر أساسي لاستيلاد الفيروسات والأمراض، وأخطر ما يواجه حيوات الكوكب الثلاث إنساناً وحيواناً ونباتاً .
مسألتان تستوقفنا بداية: معظم الفيروسات القاتلة تأتي من القارة السوداء . ولدى إفريقيا أفضل منظومة طبيعية بين القارات، وأقل نسب من التلوث الجسيم الناجم والانبعاثات الحرارية . بينما الدول الصناعية المسببة للانبعاثات الحرارية نتيجة استخدامها المفرط للطاقة وإنتاج ثاني أكسيد الكربون نادراً أن تكون منشأ للفيروسات . لا عجب، فالدراسات العلمية تقول أيضاً، إن الفيروسات موجودة أصلاً، وتبتعد عن تشكلها خطراً كلما كانت المناعة أقوى وتوفرت سبل الوقاية منها، والتصدي لها من خلال نظم صحية متقدمة وكفية طبابة واستشفاء . شرطها تعميم منافعها وسهولة الوصول إليها . هنا لا يعود الأمر مجرد فيروس أو وباء، بمقدار كونه إمكانات مالية وبحوثاً علمية وشبكة واسعة ومعممة من التأمينات الصحية للجميع . واضح في حالة سيراليون وغينيا وليبيريا أن الواقع ليس كذلك في المطلق . في الولايات المتحدة نفسها، كان 40 مليون أمريكي خارج التغطية الصحية قبل أن يخوض أوباما على امتداد ست سنوات بين 2008 و2013 معركة شرسة لإقرار نظام التأمين الصحي "مديكير" . وما زال الحزب الجمهوري لشركات التأمين وكارتيلات صناعة الأدوية يبازره على تكلفة هذا النظام في نفقات الموازنة، وخطة خفض العجز والدين والنظام الضريبي .
في الدول الإفريقية الثلاث وفي غيرها، هناك فيروس شبه مقيم أخطر من إيبولا . إنه تحالف الفقر والتخلف والقصور العلمي . إنه غير تحالف "اكواس" الذي يضم 15 دولة في غرب إفريقيا من بينها سيراليون وغانا وليبيريا ركبته فرنسا للدول الفرانكوفونية، "التعبير المهذب" لمستعمراتها السابقة في تلك المنطقة بهدف "التعاون الاقتصادي والازدهار الموعود" . الولايات المتحدة ومنظمة التجارة العالمية ومعهما البنك الدولي بدأت تتحدث إلى جانب إجراءات الوقاية من الفيروس، عن تأثير الأخير في التجارة العالمية والاستثمارات والنمو . هذا أمر طبيعي على علاقة مباشرة بصادرات السلع من إفريقيا ومن البلدان التي قد تتأثر بالفيروس . ينسحب على ذلك انتقال الأشخاص وحركة الطيران والسياحة ووكالات السفر والفنادق . وحتى على الأنشطة الرياضية وأسهم الأندية المدرجة في البورصات . وتقدر الإدارة الأمريكية احتمال أن يصل عدد المصابين بالفيروس في يناير/ كانون الثاني 2015 إلى نحو مليون و400 ألف .
وإذ استقرت البحوث الصحية للدول الصناعية على الحيوانات مصدراً للفيروس، فقد تكون النتائج على مستوى الاقتصاد العالمي أفدح لو شملت إجراءات الوقاية صادرات اللحوم والحيوانات الداجنة ومشتقاتها من منتجات .
بيد أن الدول الصناعية والمنظمات الدولية لم تتحدث ماذا يعني كل ذلك للدول الإفريقية الثلاث ولجيرانها في القارة . وهي دول تعتمد الزراعة مصدر عيش رئيسياً لشعوبها . تحليل الأثر في المدى القصير على الناتج المحلي في تلك الدول الذي أجراه البنك الدولي أظهر نتائج بائسة . التكلفة على غينيا 1 .2 في المئة إلى الناتج يخفض النمو إلى 4 .2 في المئة من 5 .4 . وعلى ليبيريا 4 .3 في المئة إلى الناتج وخفضه إلى 5 .2 في المئة من 9 .5 . و3 .3 في المئة إلى الناتج على سيراليون وخفضه إلى 8 في المئة من 3 .11 في المئة . تلك الدول عاجزة أصلاً عن تأمين حصة المناعة الغذائية لشعوبها لتوفير المناعة الصحية . توقف الدفق الاستثماري إليها أو تراجعه على نحو كبير في ما تبقى من 2014 وفي ،2015 سيجعلها عرضة للانكشاف الصحي وتحول الفيروس وباء حقيقياً .
الدول الصناعية هي التي عولمت العالم . لم يبق من العولمة إلاّ العولمة الاقتصادية وعولمة المعلومات والاتصالات . صادرت أيضاً مناخ العالم وبيئته وموارده . شركاتها في حاجة إلى أسواق وزبائن . من المفارقات، إن تكنولوجيا الدول الصناعية لم تقو على منع عولمة الفيروسات والأوبئة . هي نفسها كارتيلات الأدوية ستبتكر الآن وتصدر منتجاتها للوقاية من إيبولا وفيروسات هلامية قادمة وأوبئة . كل فيروسات الدنيا وأوبئته تنسل من مصالح هذا النظام الاقتصادي العالمي، طالما سخر العالم ومقدراته لمئة شركة تستبيح 7 مليارات آدمي وموارد الطبيعة والمناخ . أزمات تترى ديوناً وركوداً وبطالة، وحروباً تنتقل من منطقة إلى أخرى، وشركات تصنيع السلاح في ألف خير . كل ذلك ليس قدراً . ولا فيروس إيبولا أيضاً .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"