اصطفافات إقليمية وقضية فلسطين كملف "إسرائيلي"

02:21 صباحا
قراءة 6 دقائق
تفيد مجموعة مؤشرات إقليمية إلى تكيف دول وقوى سياسية مع الحاجة إلى تخفيف حدة الاستقطاب القائم، وربما الاستغناء عن المواجهة العسكرية، مع أن القطع في هذا الاستنتاج ما زال مبكراً. لقد خاضت الإدارة الأمريكية كافة النقاشات والسيناريوهات الممكنة، ووصل بعضها في عينيته حد الاختلاف مع إسرائيل حول أولوية المواجهة: مع إيران أولا، أم مع سوريا! ففي الوقت الذي أكدت فيه إسرائيل ضرورة توجيه ضربة لإيران قبل فوات الأوان، بحثت أمريكا إضافة لفكرة شن الحرب على إيران إمكانية التعايش مع إيران نووية منضبطة بضوابط وعلاقات دولية، منها تغير في سياستها يسمح بإعادة النظر بفتح سفارة أمريكية مما يساهم في عقلنة السياسة الإيرانية، وتحقيق إنجاز بواسطة ضرب ما يعتبرونه الحلقة الأضعف في التحالف، أي سوريا. ويبدو أن قوى إقليمية ولبنانية وجهت نصائح بهذا الاتجاه.. وعارضت ذلك قوى حليفة أخرى لأمريكا مثل تركيا. وطبعا ثبت في الماضي أن حسابات السرايا غير حسابات القرايا، وأن لبنان وسوريا وإيران ليست في وضع انتظار التفكك الفوري حال تلقي ضربة أمريكية، وأن النتائج قد تكون فعلا غير محسوبة. ويبدو أن البراغماتية انتصرت في النهاية. وربما تدفع بالمنطقة نحو الانفراج اعتبارات عديدة، تبدأ بسعر النفط ولا تنتهي بمحدودية قدرة امريكا وحلفائها على التورط في ساحات أخرى غير العراق، ولا تتوقف عند الخوف من نتائج غير محسوبة لمثل تلك المواجهة. هذا لا يعني ان اهداف الدول المعنية قد تغيرت، ولكنها تعني ربما أنها تفحص تأجيل تحقيقها أو إمكانات تحقيقها بوسائل أخرى غير المواجهة العسكرية. ومن المبكر الحديث عن صفقات إقليمية أبرمت. فتصرف دول بشكل براغماتي من طرف واحد تجنباً للمواجهة لا يقود بالضرورة الى استنباط صفقة إقليمية إلا في عقل من نما وترعرع على نظرية المؤامرة. فمن أعاد حساب موازين القوى الداخلية في لبنان، بما فيها وتعذر فرض موازين القوى الدولية على المحلية وعدم استجابة أمريكا الفورية لرغباته بإسقاط هذا النظام او ذاك والتي لم ينسقها معها أصلا، واتضاح عدم وجود قرار فوري بشن الحرب على إيران لا يعني ان هنالك مؤامرة أو صفقة بالاتجاه الآخر. فأهداف السياسات لم تتغير، وقد يؤدي الانفراج في النهاية الى صفقات كما قد يؤدي الى مواجهات، وكل ما يعنيه الآن هو إعادة النظر بتوقيتها وإمكان تحقيقها قريباً بموجب النموذج العراقي أو الصربي أو الليبي، أو ربما نموذج جديد آخر. أما الحالة الفلسطينية فلا تشهد مثل هذا الانفراج وإعادة النظر في الأساليب. ولا نسمع حتى ضريبة كلامية عن ضرورة الحوار مجدداً بين سلطتي الضفة وغزة. وإسرائيل عادت من أنابولس عاقدة العزم على المواجهة مع المقاومة الفلسطينية بواسطة تكثيف الغارات على القطاع وإعمال القتل والاغتيال فيه وتشديد العقوبات الجماعية على مجمل السكان. أما السلطة الفلسطينية في رام الله فما انفكت تفسر المؤتمر كدعم لها في مواجهة حركتي الجهاد وحماس وضرب العنف والتطرف والإرهاب عموما. وهي بذلك تتبنى التفسير الأمريكي الإسرائيلي لاجتماع أنابولس كتعبير عن تغير أسس الصراع في المنطقة من صراع على فلسطين الى صراع بين قوى معتدلة تشمل إسرائيل ودولاً عربية ضد قوى عربية. وكل من سمع الخطاب الفلسطيني الإعلامي في وسائل الإعلام الأمريكية اندهش من مد تبني الخطاب والمفردات الأمريكية والإسرائيلية. ولا شك في أنها سترى في مؤتمر الدول المانحة في باريس تعزيزا إضافيا لهذا النهج.لماذا لا يترجم الانفراج الإقليمي، الذي لا يعبر عن صفقة بالضرورة، إلى حوار فلسطيني فلسطيني وحكومة وحدة فلسطينية؟لماذا لا يستغل الرفض الإسرائيلي الفعلي للاستجابة لأي من مكونات الحل الدائم كحجة للحوار مع حماس؟لا يوجد تفسير لربط السلطة الفلسطينية مصيرها بالتفاوض مع إسرائيل بغض النظر عن نجاحه أو فشله، ولا لغياب الحسابات الإقليمية من اعتباراتها، إلا بأمر واحد وهو أن الملف الفلسطيني لم يعد ملفاً إقليمياً، ولا حتى أمريكياً، بل أصبح ملفاً إسرائيلياً بالفعل، وإسرائيلياً فلسطينيا بالتسمية. كنا نستنتج هذه الفرضية منطقياً من ترك أمريكا الحبل على غاربه لإسرائيل لتحقق أولوياتها في هذا الملف من دون تدخل منها خاصة في مرحلة شارون، وكنا نقدر أن إسرائيل قابلت هذا التوجه بالانصياع التام للقرار الأمريكي في ملفات إقليمية أخرى. ولكن ما كان فرضية بات يثبت نفسه عبر قدرة تفسيرية معقولة لمجريات الأمور. ليس هنالك تفسير آخر لهذا الإصرار الفلسطيني على مواصلة القطيعة الفلسطينية الداخلية من أجل مفاوضات نتائجها معروفة سلفا، وفي الوقت الذي يشكل فيه الشقاق الداخلي مصدر ضعف للطرف الفلسطيني في نفس هذه المفاوضات.والأمر الجديد هو المباركة العربية الرسمية لهذا التوجه الفلسطيني للانفراد في مفاوضات ثنائية مع إسرائيل في ظل موازين قوى ثنائية من هذا النوع. فهو يريح العرب من همٍّ كبير، وليس مطلوباً منهم ان يكونوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين. ويصل الأمر بهذه الثنائية حد تحقيق الحلم الإسرائيلي بالتنسيق في كيفية إضعاف القوى المتطرفة خاصة حماس والجهاد. لم يكد يبرد هواء الكلمات الساخن hot air كما تسمى جلسات الكلام بالإنجليزية) حتى تبينت صحة مخاوف من رأوا باجتماع أنابولس مهرجانا أمريكيا. لقد أكد الناطقون الفلسطينيون وعلى رأسهم رئيس السلطة أنهم لم يذهبوا للاحتفال وأنهم جديون في تعاطيهم، ولكن هذه الجدية الفلسطينية هي من دواعي الاحتفال الأمريكي والإسرائيلي. فهم ولا أحد غيرهم يتعاطى بجدية وجودية مع هذه المفاوضات. لا تعتمد وجود سلطة وكيان أحد من الموجودين في أنابولس عرباً ويهوداً وأمريكيين، شرقيين وغربيين، على نجاح تلك المفاوضات، أو على الأقل تقدمها. وحدها السلطة الفسطينية لا تملك خيارات أخرى، وهي رهينة المفاوضات ومبادرات حسن النية الإسرائيلية.وهي وحدها التي تتذكر أن تشكر حتى بلير على أفكاره الخلاقة، وأن تشكر كوندوليزا رايس التي لم تأل جهداً في جمع هذا الشمل في أنابولس.يؤكد رئيس السلطة الفلسطينية ان ليس لديه ضمانات، وأنه لا احد يضمن أحداً. أما إسرائيل فتطالب بضمانات وتتلقاها. رغم انها وأمريكا تتكلمان نفس اللغة، والحال بينهما يكاد يكون واحداً، ورغم توفر مصادر قوة لديها غير الضمانات أولها قوتها وقدرتها على التنازل والتكرم او حجب التنازل والتكرم. ولكنها طالبت بضمانات بالمعنى الذي قصده وسخر منه رئيس السلطة.. ففي جعبة إسرائيل رسالة ضمانات واضحة من بوش الى شارون في ابريل/ نيسان 2004 هنالك إذاً بعد كل ما قيل أحد يضمن أحداً آخر، وحتى كتابياً عندما يتطلب الأمر.لقد أكد الناطقون الفلسطينيون الواحد تلو الآخر أهمية بدء هذه المرحلة من مفاوضات الحل الدائم باعتبار ما جرى حتى الآن لم يكن مفاوضات. ونحن إذا تجاوزنا ما ذكرناه آنفا ان هذه المفاوضات تجري تحت سقف رسالة الضمانات الأمريكية التي طلبها شارون ورهنت حكومة إسرائيل قبولها خارطة الطريق بها، وكجزء لا يتجزأ من الخارطة ذاتها، باعتباره كلاما مكررا لا يقنع المفاوض الفلسطيني كما يبدو، ولا يثنيه عن عقد الآمال وتعليق الاماني على هذه المفاوضات، فإننا نضيف فنقول: ما أن عاد اولمرت الى البلاد حتى أكد ان حكومته غير ملتزمة بجدول زمني لإنهاء هذه المفاوضات، وأن كل شيء خاضع للنقاش، وأن الاساس هو تنفيذ الفلسطينيين التزاماتهم الأمنية من خطة خارطة الطريق. لقد تبخرت إمكانية إنهاء المفاوضات قبل نهاية عام ،2008 وهي لم تنشأ فعلا إلا كوعد أمريكي ببذل الجهد، وذلك بعد إلحاح فلسطيني. ولكن حتى التفاؤل بإنهاء المفاوضات في ظل ميزان القوى الراهن يتجنب الكلام عن كيف تنتهي، وبأي شروط؟ علينا أن نتذكر أنه في ظرف التفاوض ومنطقه الحالي، لا بد ان يتخلى الطرف الفلسطيني عن مواقفه العلنية على طاولة المفاوضات ولو بشكل سري بدايةً لكي يتحقق تقدم. وربما تنحل الحكومة الإسرائيلية حالما يطرح للبحث موضوع القدس. أليس هذا وارداً؟ هذا السيناريو العبثي وارد أيضا وهو يظهر هشاشة جلسات الهواء الساخن الاحتفالية هذه.لم تكتف إسرائيل بتذكيرنا بأنه إذا كانت الولايات المتحدة المستفيد الأول من أنابولس فإنها تشاركها هذه النجاح على لسان رئيس حكومتها الذي وعظ في العرب حول مصلحتهم بنبذ العنف والإرهاب وتطبيع العلاقات مع إسرائيل من دون أن ينسى أن يذكر بالاسم ثلاثة مخطوفين إسرائيليين، بل ذكرتنا وزيرة خارجيته ببعض الأمور الجوهرية أيضا. لقد صرحت يوم الإثنين الثالث من ديسمبر/ كانون الأول في خطاب لها في البرلمان الإسرائيلي ما يلي: إن إسرائيل أصرت على حضور الدول العربية لسببين:الأول: حتى تدعم أبو مازن في تنازلاته لأنه لا يوجد قائد فلسطيني يستطيع تقديم التنازلات من دون دعم عربي.والثاني: لرص صف الدول المعتدلة في المنطقة ضد الخطر الأكبر الذي يتهددها وهو إيران.وأضافت ليفني: لقد رفضنا الالتزام بأي شيء قبل وخلال لقاء أنابولس حتى لا نكبل أنفسنا خلال المفاوضات، ولم نقبل جدولاً زمنياً ملزماً حتى لا نتعرض للضغوط للتوصل إلى حل خلال فترة محددة. هذه هي الشراكة التي يريدها المفاوضون الفلسطينيون والإسرائيليون من العرب. إنهم يريدون منح تغطية عربية لهذه الثنائية التفاوضية الفلسطينية الإسرائيلية التي تعتبر الصراع مع إسرائيل خلافات بلغة الناطقين، وفي ظل شقاق داخلي يصل إلى حد الحصار الشامل، وفي ظل تغطية عربية لنقيض الخيار العربي. والهدف هو تحويل الموضوع الفلسطيني من حاجز وهاوية الى جسر تواصل بينهم وبين العرب بحجة عملية السلام والتنسيق في معسكر المعتدلين ضد معسكر المتطرفين.طبعاً، لا أمل لكل هذا الكلام بتحقيق نجاح عربي، ولكن الثمن يدفع على أية حال. وهذا ما نشهده من استفراد إسرائيلي بفلسطين والفلسطينيين.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"