اعتذار للمتفائلين

04:53 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق

في عام 2011 أصدر عالم النفس الأمريكي ستيفن بينكر الأستاذ في جامعة هارفارد كتاباً أثار جدلاً واسعاً بسبب الآراء الواردة فيه حول حاضر ومستقبل البشرية، وصراعها الأبدي بين قوى الخير والشر أو دعاة السلام وقارعي طبول الحرب. في الكتاب الذي حمل عنوان الملائكة الأفضل لطبيعتنا «البشرية»، اعتبر المؤلف أن العالم يعيش حالياً أفضل عصور السلام في التاريخ. وأن العنف بكل صوره من حروب، وإبادات جماعية وتطهير عرقي، وإرهاب قد تراجع بصور كبيرة.
جذبت وجهة نظر بينكر الوردية الكثير من الأكاديميين والسياسيين الذين اتفقوا معه على أنه يحق لنا الابتهاج بأن زماننا هو الأكثر سلماً في عمر البشرية. إلا أن مجلة «فورين أفييرز» الأمريكية الرصينة كان لها رأي آخر طرحته للمناقشة في عددها الأخير لشهري نوفمبر وديسمبر. أعادت المجلة إثارة القضية لشعورها بالقلق من شيوع تفاؤل خادع بين الأوساط الدولية بشأن انتشار السلام في العالم على نحو ما طرحه بينكر.
خطورة هذا الاعتقاد الكاذب كما تقول هو أنه سيصرف القادة عن بذل الجهد الكافي لتحقيق السلام الحقيقي. وفي دراسة مطولة بعنوان «الحرب لم تنتهِ» اعتبرت أن المبررات التي استند إليها بينكر ورفاقه قامت على أسس متداعية وتقديرات معيبة قادت إلى نتائج مغلوطة.
ربما تنعم البشرية بالفعل بهدوء لم تعرفه منذ وقت طويل، إلا أن الحقيقة المؤكدة هي أن العالم ما زال يئن بعشرات الحروب والصراعات، بما في ذلك الحروب بالوكالة بين الدول الكبرى. وإذا كان خطر نشوب حرب عالمية ثالثة قد تراجع، فإن الفضل في ذلك يرجع إلى توازن الرعب النووي، وليس إلى إيمان قادة الدول الكبرى بفضائل السلام ونبذهم للحروب.
ووفقاً للمنظمات المختصة، هناك حالياً ثلاثة حروب رئيسية، أي يبلغ عدد القتلى فيها عشرة آلاف فأكثر في العام الجاري أو السابق. أكبرها الحرب الأفغانية، وسقط فيها أكثر من 41 ألف قتيل منذ بداية العام. ثم حرب المخدرات في المكسيك وضحاياها في 2019 يتجاوزون 17 ألف قتيل. والحرب السورية التي حصدت أرواح أكثر من ثمانية آلاف إنسان هذا العام.
تشتعل أيضاً سبعة حروب أصغر، أي لا يتجاوز عدد ضحاياها عشرة آلاف قتيل سنوياً، وتدور رحاها في الصومال، والعراق، وليبيا، ونيجيريا، ومالي، وشمال وجنوب السودان. كما يوجد 25 صراعاً مسلحاً أصغر حجماً و17 بؤرة عنف واشتباكات.
تبين تلك الخريطة المرعبة لانتشار العنف أن الحديث عن استتباب الأمن العالمي لا يقوم على أساس حقيقي ويتناقض مع الواقع. وتوضح دراسة «فورين أفييرز» أن الخطأ الجوهري الذي وقع فيه أصحاب نظرية بينكر هو الاستناد إلى عاملين؛ الأول عدم اندلاع حرب عالمية جديدة. وهذا صحيح إلا أنه لا يعني وجود سلام، بدليل ما عرضناه من انتشار للصراعات المسلحة.
العامل الآخر هو أن عدد القتلى في الحروب يتراجع مقارنة بالعصور السابقة، وهذا أيضاً صحيح، إلا أن السبب ليس قلة عدد الحروب، ولكن تطور وسائل وأدوات الحماية الشخصية من ناحية، والتقدم الهائل في الطب وسرعة إجلاء المصابين من ناحية أخرى.
وبفضل تلك التطورات تراجعت نسبة القتلى إلى المصابين في العمليات العسكرية من قتيل مقابل ثلاثة مصابين، لتصبح قتيلاً لكل عشرة مصابين وهو المعدل الحالي في الجيش الأمريكي.
مثال آخر يوضح كيف أن الرعاية الصحية، وليس تراجع عدد الحروب، هي السبب في تناقص أعداد الضحايا. ففي حملة استمرت ستة أسابيع خلال الحرب الأمريكية الإسبانية عام 1898 بلغ عدد المصابين نتيجة القتال 239 جندياً، بينما أصيب 3681 آخرون بسبب العدوى الفيروسية.
من المفيد أيضاً الإشارة إلى ما تعلنه منظمة العفو الدولية من أن 20 شخصاً يتم تهجيرهم قسراً بعيداً عن منازلهم كل دقيقة بسبب العنف أو الاضطهاد. وأن عدد هؤلاء المهجرين يتجاوز حالياً 65 مليون شخص، كل منهم يمثل دليلاً حياً على أن عصرنا ليس هو العصر السعيد الذي يتحدثون عنه، وأن السلام ما زال بعيداً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"