اعرف عدوك.. خاطب عدوك

03:48 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود حسونة

«اعرف عدوك».. شعار رفعوه في الماضي، وأقنعونا بأهمية معرفة من يعادينا، وضرورة معرفة عاداته، تقاليده، أساليب تفكيره، ثقافته، نمط إنسانه، مستواه الاقتصادي، تركيبته السكانية، عديد وعتاد قواته، نهجه السياسي، وغير ذلك مما يمكن أن يساعدنا في رسم صورة واقعية وكاملة عنه، تساعدنا بدورها في التعرف على نقاط قوته لنكون مؤهلين للتعامل معها، ونقاط ضعفه لاستغلالها في أي مواجهة معه وإحراز أهداف لصالحنا.
نذكر أنهم عندما رفعوا هذا الشعار وظفوا وسائل الإعلام، ونظموا المؤتمرات والفعاليات لتسويقه أمام الرأي العام، رغم أن الناس كانت مستعدة لتبنّيه من دون أي جهد، بل إنهم اتخذوه عقيدة غير مقبول التشكيك فيها.
ومرت السنوات والعقود وتغيرت قواعد اللعبة، وزحفت العولمة لتشكك فيما كان يقيناً، وتعيد تشكيل العقل البشري بطرائق وأساليب جديدة، لتسقط دولاً وتفتت إمبراطوريات وتغير أنظمة، ويعجز عقل الكثيرين أمامها عن الدفاع عما كان يقيناً، ومقاومة هذا التسونامي المدمر لكل من يقف في طريقه.
وفي عالمنا العربي تحول «اعرف عدوك» إلى حبر على ورق بعد أن تجاوزه الزمن، وتغيرت قناعات واهتمامات ومصالح أصحاب القضية ورعاتها والسائرين في ركابهم، بل وأصبح بعض من يزعمون الدفاع عنها الأكثر اتّجاراً بها ولهم فيها مآرب أخرى.
العدو الذي حوله بعضنا إلى افتراضي، تركنا نتجادل وننظّر ونصرخ في القطيع أمام الميكروفونات ونتشاجر على الشاشات ونغرق في عالم من التيه والضياع، بينما هو تسلح بأدوات العصر وسبقنا سنوات وسنوات، ليقتحم عقول شبابنا في عقر دورنا، ليس فقط عبر وسائل الإعلام التي فتحت له أبواب بيوتنا من دون سابق استئذان، لينفرد بكل منا وحيداً عبر هاتفه المحمول، ويلقي عليه بكل ما يداعب خياله ومشاعره وغرائزه، حتى تمكن من غسل دماغه وإقناعه بما لم يكن مقتنعاً به، وزرع لديه الشك تجاه حقائق وثوابت كانت من اليقينيات عنده.
«إسرائيل بالعربية» و«إسرائيل في الخليج» و«إسرائيل في مصر» و«إسرائيل في الأردن» وبنيامين نتنياهو (الحساب الرسمي لرئيس وزراء «إسرائيل» باللغة العربية) وأفيخاي أدرعي (المتحدث بلسان جيش الدفاع «الإسرائيلي» للإعلام العربي).. كل هذه وغيرها صفحات «إسرائيلية» تخاطب المواطن العربي على «تويتر» ومثلها على «فيسبوك» وغيرهما من مواقع التواصل الاجتماعي، ويتابعها ملايين من الشباب العربي من المحيط إلى الخليج.
هذه الصفحات تخاطبنا سياسياً ودينياً واجتماعياً وتقدم لنا المغريات الاقتصادية، وتداعب مشاعر شبابنا، وتشاركنا مناسباتنا الدينية والوطنية، وتستغل فولكلورنا وأعمال نجومنا ومبدعينا، حتى تتسلل إلى عقول أبنائنا وبناتنا، وتقنعهم أن «إسرائيل» واحة الديمقراطية وحقوق الإنسان ودولة العدل والإنصاف وحاضنة الناس من كل لون ودين وعرق ومناهضة الإرهاب، وكلها صفات يدرك العقلاء حول العالم أنها بعيدة كل البعد عن دولة الإرهاب والإبادة والعنصرية والتمييز.
من يفتح هذه الصفحات، يجد أن المتابعين لها والمتفاعلين معها من أبنائنا يتزايدون يوماً بعد يوم، ونحن جالسون على مقاعد المتفرجين مكتفين حتى اليوم بقديمنا البالي «اعرف عدوك»، وكأن تكنولوجيا التواصل الاجتماعي وصلتنا فقط لنتجاوز فيها على بعضنا ونستمع للآخر من دون أن يكون لنا حق مخاطبته.
يخاطبوننا بوسائل مختلفة تستهدف شبابنا، وبمواقع تواصل تطوقنا، ونحن نتفرج ونتجادل، وإذا نالت سمومهم من أحد أبنائنا، وأقنعوه بما يرددونه وزار كيانهم، قامت الدنيا عليه، وهاجمه الجميع وتصدر نشرات أخبار الفتنة، ووجّه كل منا سهامه إليه، من دون أن نسأل أنفسنا «من المسؤول» وأين نحن ومؤسساتنا من هذا؟ وماذا فعلنا لتحصين شبابنا من هذا الغزو الذي تحطمت أمامه حدودنا وجدراننا في وقت يزداد جدارهم العازل ارتفاعاً أمامنا وصداً لشبابنا وحصداً لأرواح بعضهم.
ليت زيارة الشاب محمد سعود إلى «إسرائيل» (كنموذج للعديد من الشباب العربي الذي يذهب إلى «إسرائيل» من دون أن تصاحبه ضجة إعلامية) تفيقنا من غفلتنا، وبدلاً من أن نصبّ عليه جامّ غضبنا، ونحمّله وحده مسؤولية فشلنا في احتضان شبابنا الجامح، علينا أن نتعامل مع الأمر بواقعية شديدة، ونواجه خطوته بشكل علمي ونبحث في دوافعه وأهداف العدو من استهداف شبابنا على المديين القريب والبعيد.
زيارة محمد سعود خطيئة ارتكبها، ويمكن أن تكون المنبّه الذي يفيقنا من غفوتنا ويدفعنا لإعادة النظر في أساليبنا في التعامل مع الآخر، الذي يستهدف تاريخنا وجغرافيتنا وشبابنا.
قالوا لنا «اعرف عدوك»، ونقول لهم عرفنا عدونا التقليدي، وعرفنا أعداءنا المحيطين بنا، وعرفنا أعداءنا الذين يعيشون بيننا.. فماذا فعلنا؟ بماذا تسلحنا لمواجهة خطابهم جميعاً المباشر وحوارهم الجريء حد الوقاحة مع شبابنا؟
أعداؤنا يتشابهون سلوكاً وطموحاً ولا يختلفون سوى بالأسماء، وعلينا أن نأخذ حذرنا منهم جميعاً ونتسلح لمواجهة كل منهم بالأسلحة التي تناسبه، وإن كنّا سنكتشف أن أسلحة المواجهة لكل منهم لن تختلف في شيء.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"