الأرض المصرية ثروة الأمة

04:37 صباحا
قراءة 5 دقائق

عندما أصدر آدم سميث كتابه الشهير ثروة الأمم وقفت الإنسانية المتحضرة وقتها في انبهار أمام عناصر الإنتاج الأساسية، حيث برزت الأرض في المقدمة وظهر عنصر العمل ليكون هو العنصر التحويلي من الطبيعة إلى الإنتاج، ومضى الاقتصاديون على هذا الدرب لعدة قرون، ونحن نظن عن يقين أن الأرض المصرية هي المصدر الأساس لتراكم الثروات والانتقال الطبقي المفاجئ في العقود الأخيرة بل إننا إذا ذهبنا بعيداً إلى مرحلة تشكيل مصر الحديثة وميلاد الامبراطورية المصرية في عهد محمد علي فسوف نكتشف أن الحياة قد تشكلت وفقاً لتوزيع الأراضي بدءاً من المحاسيب (الشفالك والأبعاديات) وصولاً إلى اللائحة السعيدية التي جعلت من ذلك الخديوي البدين صديقاً للفلاح ومدركاً لأهمية العنصر المصري في التعامل مع الأرض الطيبة، والآن نمضي سوياً في ارتياد طريق الملكية وارتباطه بمجرى النهر والعوامل المشتركة بين أقاليم مصر وبقاعها داخل الحزام الصحراوي الذي يحيط بالوادي والدلتا ونوجز ذلك فيما يلي:

* أولاً: تمثل الأرض بالنسبة للمصري أغلى ما يملك، وأهم ما يحوز، ويبدو ارتباطه بها ارتباطاً أزلياً وتتحدد قيمته الشخصية ووجاهته الاجتماعية بقدر ما لديه من تراب مصر وطينها النيلي الخالد، ولقد حدثتنا مأثوراتنا الشعبية بما يؤكد ذلك، ولعلنا نتذكر ما حدث عندما (باع عواد أرضه) وذلك لأن الرقعة الزراعية في مصر محدودة، والذي يقرأ أو يشاهد رائعة عبد الرحمن الشرقاوي الأرض رواية أو فيلماً يدرك مدى تعلق المصري بأرضه سواء كان إقطاعياً مستبداً أم فلاحاً أجيراً، إنها أرض مصر أغلى بقاع الدنيا وأقدمها، تراكمت فوقها رقائق الحقب التاريخية وترسب في جوفها ماء النيل الوافد عليها من عمق القارة الأم . ولقد أدى ضيق الرقعة المأهولة بالسكان وتركز المصريين في ما لا يزيد على عشرة في المائة من مساحتها إلى اعتبار الأرض الطيبة هي بحق مصدر القيمة ومكون الثروة في كل العصور .

* ثانياً: إن الموقع الجغرافي الحاكم في مصر وإطلالها على ساحلي بحرين مفتوحين واحتلال الزاوية الشمالية الشرقية من إفريقيا (عبقرية المكان كما رآها حمدان) إلى جانب اعتدال الطقس نسبياً أدت كلها إلى ارتفاع قيمة الأرض المصرية وندرتها نسبياً بالنسبة لعدد السكان . وهنا يجب أن نتذكر أن التعريف التقليدي لعلم الاقتصاد كان أنه هو علم الندرة، وهو أمر يؤكد علمياً أن الأرض في مصر زراعية أو عقارية هي عصب الاقتصاد القومي وركيزة الاستثمار والوعاء الأفضل لحفظ قيمة النقود في بلد تتهاوى فيه قيمة العملة وتتراجع القوة الشرائية لها .

* ثالثاً: إن نهر النيل عنصر محوري في تحديد قيمة الأرض المصرية بصعيده الصامد ودلتاه التي تفتح ذراعيها بفرعي دمياط ورشيد مرحبة بالحضارات الوافدة، وتستقبل الرؤى الجديدة، وتستلهم الحياة من عالمها المحيط بها . ولقد أدى ذلك بدوره إلى الارتفاع المتزايد لقيمة الأرض المصرية والتكالب على ملكيتها والاستفادة من المعدلات الربحية المذهلة نتيجة المضاربة عليها وتبريدها في أجواء مصر والإبقاء عليها سنوات ثم إعادة بيعها وتحقيق أرباح فلكية من ورائها . وهكذا تكونت ثروات طائلة في مصر خصوصاً عبر العقود الأخيرة، وأصبحنا أمام نمط جديد من الريع السهل والعائد المضمون دون مجهودٍ حقيقي أو عمل منتج . وأنا عندما أتحدث عن المضاربات على الأرض لا أشير لمن بنى عليها فذلك استثمار عقاري مشروع أو من أقام عليها المصانع والوحدات المنتجة والكيانات المطلوبة فتلك ظواهر طبيعية للعملية الاقتصادية السليمة، ولكنني أقصد تحديداً أولئك الذين استحوذوا على الأرض بمئات الأفدنة في ظروفٍ انتهازية أو نتيجة اتصالات معينة ثم باعوها بعد ذلك بالمتر المربع! إنها واحدة من المضحكات المبكيات على أرض مصر، ولقد أثبتت الإحصائيات الحديثة أن تراكم الثروة من المضاربة على الأراضي يتفوق أرباح تجارة السلاح والمخدرات والمجوهرات! بل وتتصدر أسباب الثراء الفاحش والمفاجئ لطبقة جديدة حققت كل شيء دون أن نفعل أي شيء!

* رابعاً: إن الأرض المصرية هي عنصر جاذب للسكان، ويؤكد التوزيع الديمغرافي لهم فوق الخريطة المصرية أنهم يتركزون حيث توجد الزراعة والأرض الخصبة والمياه المتاحة، ويتجنب المصري غالباً الصحارى البعيدة والتضاريس الوعرة والبعد عن مصادر المياه، لذلك كان اقتحام المصري للأرض خارج الدلتا والوادي محدوداً، كما أنه يؤثر المناطق المزدحمة والتجمعات العمرانية الآهلة على استصلاح الصحراء أو التعامل طويل المدى في إعداد الأرض للزراعة، ورغم أن توزيع الأرض الجديدة كان هو الآخر واحداً من مشكلات الواقع الاقتصادي المصري المعاصر، إلا أن ذلك اقتصر على الأرض المنتجة أو ذات الميزات النسبية أو الوقوع على أطراف المدن ووجود احتمالات كبيرة للدخول داخل كردوناتها وذلك يفسر إلى حد كبير مشكلة العشوائيات بل أقول مأساة العشوائيات بما يجب أن تؤدي إليه من وخز دائم في ضمير الأمة ووجدان الشعب .

* خامساً: إن متابعة منحنى الملكية الزراعية في مصر وتوزيع الأرض فيه رتبط ارتباطاً وثيقاً عبر تاريخنا كله بحيازة الثروة أو امتلاكها، فالأرض في مصر كانت ولا تزال وسوف تظل وعاء القيمة ومصدر الثروة وهوى المصري في كل زمان ومكان، ولاشك أن الأمر ينسحب على أهمية الأرض في الدول الأخرى أيضاً لأن حجم اليابسة يتقلص، كما أن اكتشاف أراضٍ جديدة قد توقف تقريباً! فلقد انقضى عصر الكشوف الجغرافية وأصبحنا أمام مساحة محدودة لبشرية يزداد عددها بالمليارات كل بضع سنوات، ولقد تأثرت كثيراً بكتاب الأرض والفلاح للمفكر المصري الراحل إبراهيم عامر وكذلك فقد أفدت أيضاً من الكتاب القيم للأستاذ الدكتور علي بركات حول تاريخ الملكية الزراعية في مصر وكذلك الإسهامات المتميزة في هذا السياق للراحل الدكتور رؤوف عباس والدكتور عاصم الدسوقي، وآمنت دائماً بأن الأرض أعز ما نملك وأغلى ما نحوز عبر الأجيال كلها .

. . هذه محاور أنطلق منها لكي أشير إلى ما جرى في السنوات الأخيرة في بر مصر، وعمليات السطو المنتظم على الأرض الزراعية في ظل مشكلة عالمية ومحلية في توفير الغذاء، وكيف أدت بنا إلى حالة من الفزع دارت بعض حلقاتها حول المدن الجديدة وبعض نماذج الاستثمار العقاري، معترفاً بأن حركة الإعمار قد تفوقت بشكل ملحوظ مع الزيادة الفلكية في عدد السكان التي تجاوزت كل التوقعات! لذلك فإنني أدق ناقوس الخطر بكل موضوعية وشفافية مطالباً بإلقاء نظرة جديدة على الأرض المصرية، ولعلي أقدم نموذجاً لعشوائية التفكير من خلال تلك المليارات التي أنفقت على الاستثمار العقاري في مصايف الساحل الشمالي وقراه من دون تخطيط مسبق أو نظرة شاملة تقوم على رؤية عصرية وفكر حديث كان يمكن أن تجعل من ذلك الساحل بحق ريفيرا مصرية تناطح تلك الفرنسية أو الإيطالية أو حتى الشواطئ التونسية، لقد فرطنا أيها السادة في أعز ما نملك ولم ندرك مبكراً أن الرؤية البعيدة والخطة المتكاملة والخيال الواسع هي مصدر استلهام المستقبل وتكريم الأرض المصرية العريقة إذا جاز تعبير التكريم هنا، فالأرض هي الأم والحضن والعرض والوطن، وعندما أستخدم تعبير الأمة المصرية فإنني لا أبتدع جديداً، إذ إنه رغم أن مصر هي جزء من أمتها العربية وقارتها الإفريقية وعالمها المعاصر ولكن لديها من مقوماتها الذاتية وتاريخها الطويل ما يجعل تعبير الأمة المصرية لائقاً بها مرتبطاً بتراثها ولم يخطئ الزعيم سعد زغلول ورفاقه حينما جعلوا الأمة المصرية مظلتهم الأولى في فترة من أزهى فترات الوطنية المصرية في العصر الحديث، والأمة تقوم على الأرض ولكن أي أرض، إنها تلك التي باركها الأنبياء، واندحر على حدودها الغزاة، وتساقط من فوق عروشها الطغاة . . إنها مصر كنانة الله .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"