الأساليب الرشيدة في معالجة الأزمات الطارئة

03:07 صباحا
قراءة 5 دقائق

كلما تعرضنا لأزمة أو واجهتنا محنة أطل علينا نفس السؤال: هل عالجنا المشكلة على النحو الأمثل؟ ولماذا يبدو إخفاقنا أحياناً في بعض المواجهات والتحديات أمراً ننكره ونلقي بالتبعية على الغير بلا تردد؟ إن القضية في ظني تحتاج إلى دراسة أمينة وتحليل سليم فيه مكاشفة للنفس ووضوح مع الذات وتعامل مباشر مع الحقائق، وسوف أقدم هنا تصوراً للأسباب التي تحول بيننا وبين اقتحام المشكلات بأسلوب علمي ومنهج عصري يعترف بالأزمة ولا يدور حولها، يدرك أبعاد المشكلة ويسعى لاقتحامها في مصداقية وشجاعة وشفافية بدلاً من التسويف أو الإرجاء أو الإنكار، وما أكثر ما تعرضنا له من أزمات ومشكلات بل وكوارث في السنوات الأخيرة، ولم يكن تعاملنا معها على المستوى المطلوب، ولعلي أدفع بالأسباب الآتية تبريراً لذلك:

* أولاً: إننا لا نتعلم من تجاربنا السابقة وندخل جولات المواجهة المختلفة وكأننا ولدنا أمس، مع أننا ننتمي إلى أقدم حضارات الأرض، ونحن لا نعرف معنى الوقاية والتحسب والرصد المبكر لإرهاصات المشكلة وبوادرها، ونؤجل التفكير في أسلوب المواجهة، لأن التسويف أصبح جزءاً من ثقافتنا اليومية، كما أن ترحيل المشكلات والتهرب من التفكير فيها أصبح سمة شائعة بيننا، وأحياناً نكون على يقين كامل بأن الأزمة قادمة لا محالة، ولكننا ندفن رؤوسنا في الرمال ولا ندري بالخطر القادم، ولا نتعامل مع المشكلة المؤكدة، وتلك في رأيي خطيئة موروثة تحتاج إلى نظرة مختلفة ورؤية عاقلة تواجه الأزمات والمشكلات، وأيضاً الكوارث بحجمها الطبيعي من دون تهويل أو تهوين .

* ثانياً: إننا ندخل في مقدمات الأزمة ولدينا تصور واحد لمسارها وغالباً هو التصور الذي نريده نحن وليس التصور الواقعي أمام احتمالات مفتوحة، بينما الأفضل دائماً لمن يريد أن يتعامل مع مشكلة معينة أو أزمة بذاتها أن يعتمد دائماً على البديل الأسوأ، فإذا ما تحقق له ما يريد كانت سعادته بالغة، وإذا لم يتحقق له ما أراد لا تكون صدمته قاسية، كما أن العمل وفقاً للسيناريو الصعب يؤدى بدوره إلى اكتشاف المحاذير وتجنبها وتلمس الأخطاء والابتعاد عنها مع الاستعداد للنتيجة مهما كانت، فلا نذهب إلى أم درمان مثلاً وفي ذهننا احتمال الفوز وحده من دون تحسبٍ لاحتمال بديل، وهو نفس الخطأ الذي وقعنا فيه مع الفارق الكبير في التشبيه عندما تصورنا في يونيو/حزيران عام 1967 أننا سوف ندخل تل أبيب خلال عدة ساعات، ولم يكن سيناريو الهزيمة مطروحاً على الإطلاق، وأحادية النظرة قد كلفتنا كثيراً في كافة المجالات بدءاً من السياسة، وصولاً إلى الرياضة، مروراً بمعظم أزماتنا العابرة ومشكلاتنا الطارئة وكوارثنا المفاجئة .

* ثالثاً: إن مبالغتنا في تصور قوتنا والاستهانة بقدرات الغير لازالت واحدة من عيوبنا المتصلة، بينما يجب أن يكون الأمر عكسياً، ولا ينال ذلك من الثقة بالنفس، بل هو يعززها ويؤكد الإيمان العميق بالذات الذي يقبع في الأعماق ولا يحتاج إلى التصريح به والطنطنة بترديده من أجل الاستهلاك المحلى، إننا أيها السادة نحتاج إلى فلسفة مختلفة في فهم ما نملك والوعي بما يملكه الآخرون حتى تكون حساباتنا دقيقة وتصرفاتنا محسوبة وآراؤنا سديدة ومواقفنا سليمة .

* رابعاً: يجب أن نملك زمام المبادرة وألا نكون أسرى لنظرية رد الفعل بحيث نستطيع دائماً أن نخلق الفعل لا أن ننتظر وقوعه، فالتنبؤ الذكي والحدس الأمين يساعدان على رصد الحقيقة والاستعداد لها بما يتناسب معها، لأن الانتظار للتعامل بردود الأفعال هو نوع من العجز وغياب القدرة على الفعل وضعف روح المبادرة وترهل الذات .

* خامساً: إن الضجيج الإعلامي والشحن النفسي الذي نتبعه في مواجهة معظم القضايا والمشكلات هو فيروس قاتل يعلي من سقف التوقعات ويهيئ الآخرين لمعركة حاسمة يستعدون لها ويرتبون أوراقهم قبل الخوض فيها، إن الإعلام أيها السادة سلاح ذو حدين، فهو بقدر ما يكون شحناً للرأي العام الداخلي وخلقاً لروح التعبئة العامة، فإنه يكون على الجانب الآخر مدعاة لإحباط أشد وتوتر بغير حدود، فارتفاع ترمومتر الحرارة في اتجاه معين قد يحتاج إلى جهد كبير عند محاولة خفضه بحيث نصبح أمام الحاجة الماسة لمهدئات مطلوبة للرأي العام من أجل امتصاص غضبته .

* سادساً: إن الصدق مع الذات وبناء المصداقية أمام المجتمع الدولي، وتأكيد درجة الشفافية في مواجهة الحدث هي أمور ضرورية لخلق المصداقية وصنع الثقة بشفافية المعلومات التي هي تعبير حقيقي عن اعتزاز الدولة بكرامتها ومكاشفة الآخرين بحقيقة ما يجري فيها، خصوصاً وأن مساحة الحرية المتاحة في بلدنا في مجال الصحافة لا تقارن بها حرية مماثلة في معظم الدول العربية الشقيقة، وقد يقول قائل إننا نقيم غرف العمليات لكل المشكلات إذا حدثت ويجتمع أطرافها وقد يكونون قادمين من جزر منعزلة على مستوى الوطن، فبعضهم من جهات أمنية والآخرون من جهات دبلوماسية، إلى جانب ممثلين لجهات تعليمية أو صحية أو رياضية أو غيرها، ولكن المشكلة أن حضورهم يأتي من منطلقات مختلفة بل وثقافات متفاوتة فيكون التخبط طبيعياً والقرار عشوائياً في كثير من الحالات .

أقصد صراحة من هذه الملاحظات التي طرحتها أننا كثيراً ما نعالج الملفات الصعبة بعصبية ودون عمق، كما أننا نتعامل مع الأزمات أحياناً بطريقة سطحية فيها الكثير من نقص الدراية وعدم استخدام الخبرات والإفادة من دروس الماضي . إن تفكيرنا موسمي يرتبط بتوقيت المحنة أو المشكلة أو حتى الكارثة، ولكن الأمور سرعان ما تعود لطبيعتها لنواجه مشكلاتٍ مثيلة جديدة، فلا تراكم للخبرات ولا استيعاب لطبيعة المشكلات، إنها مظاهر العقل المسترخي والنفس المستسلمة للقدر في كل الظروف، أطالب بتدريس مناهج البحث وطرائق التفكير في جامعاتنا على نطاق أوسع، كما أطالب بتدريب المتخصصين في إدارة الأزمات بكل قطاعات الدولة، إذ لا يمكن أن نستيقظ فقط ونقيم الدنيا ونقعدها عندما يصطدم قطاران في الصعيد أو مركبان في نيل الدلتا أو عندما نخسر مباراة رياضية وتترك وراءها آثاراً سلبية عميقة مع أن كل الشواهد والدلالات كانت توحي بما حدث في كل هذه الحالات، وأنا أضيف هنا أن العلاج الأمني ليس هو الدواء الوحيد لمعالجة معظم مشكلاتنا وأزماتنا، فالمسؤولية موزعة على الكل ويجب أن يتحملها الجميع، إن الدبلوماسية والإعلام والجهات السيادية والهيئات المتخصصة بالإضافة إلى المنظومة الأمنية يجب أن يكون بينها ما يعزز مفهوم نظرية الأواني المستطرقة، أما منطق الجزر المنعزلة فقد كلفنا الكثير في السنوات الأخيرة، إن فلسفة عمل الفريق من دون حساسيات أو تبادل للاتهامات أصبحت أمراً ملحاً في ظل تداعي أساليب مواجهتنا لمشكلاتنا المزمنة أو أزماتنا الطارئة .

إنني أؤكد هنا أن مصر بلد يضم كفاءات ثقيلة الوزن في كافة التخصصات والمجالات ولا تنقصها الرؤية التاريخية ولا المكانة الجغرافية، لذلك فإنه من غير المقبول أو المعقول أن تدفع مجموعة من الرياضيين والإعلاميين مع احترامي لهم جميعا الدولة كلها إلى مواجهة غير محسوبة تدفع ثمنها السياسي مصر من دورها الإقليمي وعطائها التاريخي .

تلك قراءة سريعة لأسلوب روتيني متخلف في التعامل مع المشكلات والاشتباك مع الأزمات والحد من آثار الكوارث . . إن من لا يتعلم من ماضيه سوف يعانى من حاضره، ومن لم يتهيأ لحاضره لن يجد مستقبله .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"