الأنماط الحياتية القابعة وراء الأشخاص

03:35 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

أبداً، يعيد التاريخ نفسه المرّة تلو المرّة في بلاد العرب. مما يتكرر في مسيرة تاريخنا الحديث هي الجهة التي يتجّه إليها إصبع الاتهام واللّوم في حياتنا العامّة كسبب شبه وحيد لكل مشاكلنا الحياتية المجتمعية.
إبّان فترة الاستعمار كان لدينا نظام إقطاعي استغلالي، أفقر الفلاحين من خلال نظامي السّخرة وشبه العبودية. وكانت لدينا أنظمة حكم محليّة، قبليّة أو مدنيّة،خاضعة لسلطة الاستعمار وتأتمر بأمرها، تمارس شتّى أنواع الاستغلال والتمييز والفساد.
لكن إبّان تلك الفترة كان إصبع الاتهام يتجه إلى سلطات الاستعمار، كسبب لظواهر الفقر والمرض والجهل وغياب الحريات والعدالة والكرامة الإنسانية. كانت تلك ممارسة انتقائية تلوم جهة واحدة خارجية وتنسى باقي الجهات الداخلية.
وعندما خرج الاستعمار وحكمت أرض العرب أنواع من القوى، عسكرية وتاريخية دينية وحزبية وخليط من هذا وذاك، اتجه إصبع الاتهام إلى العسكر الذين انقلبوا على الشرعية ولايفقهون شيئاً في السياسة، أو القبليين الذين يرجعون عجلة التاريخ إلى الوراء ويحاربون الحداثة، أو رجال الدين السلفيين المتزمتين، أو الليبراليين المتغرّبين. دائماً كانت هناك جهة ما، يقع اللوم الأكبر عليها.
لكن من أكثر اللوم المتخيّل، لوم القضية الفلسطينية. فالانشغال بها والإعداد لمقارعة مسبّبيها من الصهاينة والاستعماريين، كان على حساب التنمية والتقدم، خصوصاً عندما طرح البعض شعار: «لايعلو صوت على صوت المعركة». وها نحن، في أيامنا الحالية، نقرأ لبعض الكتبة المنقلبين على تاريخهم النضالي، أن حل إشكالياتنا التنموية والحضارية سيبدأ حالماً نطبع كل العلاقات العربية مع «دويلة الاحتلال» في فلسطين ونقبل بها كجزء من «العالم العربي» أو «الشرق الأوسط الكبير». إصبع الاتهام في هذه المرة يتجه إلى روابط العروبة القومية التي تلزمنا بالوقوف إلى جانب الشعب العربي الفلسطيني الشقيق.
وأخيراً، بدأ كُتّاب تغطية الفساد وتبرير حياة اللامساواة والظلم والقهر العربية، بتوجيه إصبع الاتهام إلى وجود الجهاد التكفيري العنفي الذي يعطل التنمية وحلّ مشاكل التقدم الحضاري.
هي مسيرة طويلة، تتغيّر عناوينها وأسماؤها، ولكنها دوماً لا تشير إلى مصدر الخلل الأساسي الذي ينتج كل تلك القوى أو الظواهر أو المطبات في حياة مجتمعات العرب ويجعلها قادرة على إعاقة التنمية للخروج من حالة التخلف العربي التاريخي الذي ما زلنا نعيشه أو ندور كالهائمين حول كعبته.
أساس المشكلة يكمن في أنماط العيش التي تحياها مجتمعات العرب وتتحكّم في النتائج والمسيرة والمنهج.
فنمط الحياة السياسية، القائمة على الغلبة وغياب الشرعية الديمقراطية التي، هي بدورها، تحكمها الشفافية والحكم الرشيد وإشراك المجتمع والمساءلة، لايمكن إلا أن تغطي على قلة الكفاءة والفساد والسرقة، وبالتالي الفقر وترهّل الخدمات الاجتماعية واللامساواة. أياً تكن مصادر السلطة وأنواعها فإنها، في أجواء ومحددات ذلك النمط من الحياة السياسية، لابد أن تقود إلى ذلك البؤس الإنساني.
نفس الشيء ينطبق على نمط المجتمعات الثقافي. فعندما يسمح بأن ينحبس في إملاءات تراثه الماضي، ويتشكك في كل ما هو حداثي عصري، ويعتبر العقلانية عدوة للدين، ويقبل بالمقولة الفقهية التي لا تجيز الخروج على ولاة الأمر بسبب أخطاء دنيوية يرتكبونها اتقاء لفتنة متوهمة، ويخضع لعلاقات أبوية تسلطية في تسيير أمور المجتمع التي تمسّ معيشته وحريته وحقوقه الإنسانية.. عندما توجد هكذا ثقافة، ينقلب الإنسان إلى فرد اتكالي غير مبدع وغير منتج.
هنا أيضاً اللوم الأساسي يجب أن يوجه إلى هكذا ثقافة. نقدها وتجديدها يؤديان إلى حل القائم. أما التركيز على حامل تلك الثقافة وعلى إزاحته فإنه يؤدي إلى حلول مؤقتة.
الأمر نفسه ينطبق على نمط الحياة الاجتماعية. فوجود نمط الحياة الاجتماعية القائم على إملاءات العلاقات القبلية وعلى بلادات الصراعات الطائفية هي الكامنة وراء القناع، وهي التي يجب أن تحارب وتنقد وتعدل كل جوانبها السلبية.
إزاحة الأفراد أو الأنظمة مطلوبة بالطبع، عندما يصر أصحابها على تسيير الأمور بتلك الأنواع من أنماط الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. لكن هذا لن يكفي أبداً، إذ ما أن يسقط أو يزاح طاغية حتى يحل محلّه طاغية آخر ليُسيّر الأمور بنفس الأنماط الحياتية.
لننظر إلى مايجري في فرنسا حالياً من أحداث. هدف قادة الحراك ليس إسقاط الرئيس الفرنسي، فبقاؤه وخروجه مرهونان بالانتخابات. ما يريدون إزاحته هو ذلك الفكر الرأسمالي النيوليبرالي المجنون الذي قاد إلى شقائهم وبؤسهم. المشكلة في ذلك الفكر الثقافي الاقتصادي وليس وجود هذا الشخص أو ذاك.
في بلاد العرب، عبر سبع سنوات من الحراكات الجماهيرية، حضر الأشخاص والنظم كأهداف للغضب والتغيير، وغابت إلى أبعد الحدود أنماط الحياة العربية المتخلفة التي ترسخت عبر العصور وأصبحت ترفض الانزياح من درب الإنسان العربي.
المطلوب هو إعطاء اهتمام أكبر لنقد أنماط الحياة العربية وتجديدها، وذلك من أجل تجاوزها. هذه ملاحظة لشباب الأمة العربية، ليأخذوها بعين الاعتبار.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"