الإصلاح «الممنوع» في بلاد الرافدين

03:58 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود الريماوي

إن إبقاء الوضع على تشوهاته في هيكلية الدولة، لن يؤدي إلا إلى الدوران في حلقة مفرغة من الخسائر والأضرار التي تصيب الاقتصاد والعمران وسائر مظاهر الحياة.
تبارت الزعامات الحزبية العراقية خلال الأيام القليلة الماضية بالدعوات إلى مباشرة الإصلاح والاستجابة إلى مطالب المحتجين المشروعة، فعل ذلك مقتدى الصدر زعيم تكتل «سائرون»، ثم ائتلاف «الفتح» الذي يضم مجموعة فصائل فاعلة، و«تيار الحكمة»، وانضم باكراً رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، ورئيس مجلس الوزراء عادل عبدالمهدي إلى المستجيبين للدعوات الإصلاحية، داعياً الأحزاب والقوى السياسية للتعاون معه، مع وعود بالتحقيق قي سقوط ضحايا، وحتى اعتبار هؤلاء شهداء. وكان قد سقط بالفعل نحو 50 ضحية من المحتجين في بغداد والناصرية ومدن أخرى حتى فجر السبت الماضي.
غير أن من التساؤلات التي بقيت: إذا كان الجميع مع المطالب الاحتجاجية، فلماذا المسارعة إلى إطلاق النار على المحتجين؟ ومن القوى التي بادرت إلى إطلاق النار؟ هل هي من الجيش أم من الشرطة (مكافحة الشغب) أم من ميليشيات وسرايا غامضة ومعلومة؟ ولماذا تهويل الأمور إلى درجة فرض منع التجول؟
لقد تميزت الاحتجاجات بالحدة، وهو أمر يُفهم في سياق تجدد الاحتجاجات مرة تلو المرة منذ سنوات، مع وعود إصلاحية خلابة من طرف الحكومات والقوى النافذة، لكن الأمور ظلت تتراجع على صعيد الخدمات الأساسية وعلى صعيد حكم القانون، إضافة إلى الفساد المستشري والذي يعترف به الجميع بما في ذلك الحكومة التي شرعت لفصل ألف موظف تم اتهامهم إداريا بالفساد، مع بدء الاحتجاجات منذ يوم الاثنين الماضي.. وليس معلوماً ماذا كان يمكن أن يؤول إليه وضع هؤلاء لو لم تقم الاحتجاجات، هذا في حال كانت الاتهامات بحقهم صحيحة وعادلة.
على أن السيئ في الأمر هذه المرة هو ارتفاع موجة العنف الدموي. فهل العنف هو قدر العراق والعراقيين؟ إن الدول القوية المنيعة لا تمارس العنف إلا في نطاق القانون، ولذا فهو عنف مقيد. لكن الأمر في بلاد الرافدين مختلف، إذ يمارس العنف على نطاق واسع، قبل ظهور الإرهاب، ثم بعد تقلص الظاهرة الإرهابية إلى درجة الاضمحلال. وهو ما يثير حالة من الاحتقان عبّرت عنها الاحتجاجات الأخيرة، إذ إن ممارسة العنف المسلح تتداخل مع شبكات الفساد ومع تقاسم النفوذ ومع سطوة قوى الأمر الواقع (غير الحكومية)، وهو ما يغلق منافذ الإصلاح مرة تلو مرة.
ومن الغريب أن نداءات المرجعية الدينية التي تتلاقى مع المطالب الشعبية لا تجد لها آذاناً صاغية، باستثناء بعض التصريحات المهادنة والمخاتلة. فهذه المرجعية أكبر ناقد للأوضاع، من دون أن تلتقط القوى النافذة مضمون الرسالة وتحذيراتها، والأمر ليس بجديد، بل إنه يتكرر بين آونة وأخرى. وهو ما يجعل المرجعية عملياً في موقع المعارضة. ومع ذلك لا يتوانى البعض ممن لا يريدون الإصلاح أو التغيير، عن اتهام المحتجين بأنهم يدورون في فلك أمريكي و«إسرائيلي»! جرياً على أسلوب معهود في نعت كل معارض أو ناقم أو محتج أو ناقد على أنه مشبوه في وطنيته.
لقد لاحظ من لاحظ أن احتجاجات الأسبوع الماضي كانت عابرة للطوائف والمناطق. وربما هذا ما أثار مخاوف «الدولة العميقة» هناك، من أن تتوحد الأصوات الشعبية، وأن تعود اللحمة إلى النسيج الوطني والاجتماعي على قاعدة المطالب العادلة التي تجمع العراقيين، وأن يتحد الجميع في وجه الفساد المستشري الذي ينعكس إفقاراً للناس، وتقهقهراً للخدمات الأساسية، واضطراباً في حبل الأمن، وتشريداً للنازحين، والبطء الشديد في وتيرة الإعمار. وكأنه يراد لهذا البلد العظيم ألا ينهض من كبوته، وألا يعيش أبناؤه حياة طبيعية يسودها حكم القانون والعدل والأمان، والانصراف إلى البناء والإنتاج والتنمية الشاملة، في ظل دولة سيّدة حرة تقيم علاقات متوازنة مع الأشقاء ودول الجوار على أساس الاحترام المبادل وحسن الجوار.
ومن المؤسف حقاً أن يقيم بلد الرشيد على حالة الاستعصاء السياسي هذه منذ أزيد من عقد من الزمن. ولعل دعوة مقتدى الصدر إلى إجراء انتخابات نيابية مبكرة بإشراف أممي، (على الرغم من أن تياره يحوز على أكبر كتلة برلمانية) تكسر الجمود القائم، وتمثل مبادرة سياسية لاختراق هذا الانسداد، إذ إن المواظبة على إطلاق الوعود الإصلاحية مع إبقاء الوضع على تشوهاته المعلومة في هيكلية الدولة، لن يؤدي إلا إلى الدوران في حلقة مفرغة من الخسائر والأضرار التي تصيب الاقتصاد والعمران وسائر مظاهر الحياة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"