الإهانة كمرض من أمراض العلاقات الدولية

04:35 صباحا
قراءة 4 دقائق
في العلاقات بين الناس، كما بين الأمم، يمكن للإهانة أن تقود إلى أفعال غير محمودة العواقب كما إلى حروب مدمرة . من الضروري والحال هذه احترام الآخرين وتفادي إهانتهم، وإذا ما حصل عن طريق الخطأ إعادة الاعتبار إليهم حتى لا يصبحوا أعداء وتصبح لغة القوة الوسيلة الوحيدة للتعامل معهم .
في العام 1919 قادت إهانة ألمانيا المهزومة في الحرب العالمية الأولى "مؤتمر فرساي" إلى صعود النازية فيها والتي كان ينبغي مقاتلتها، فكانت الحرب العالمية الثانية،الأبشع في تاريخ الحروب بين البشر .
وفي العام 1995 فإن رفض الاتحاد الأوروبي الطلب التركي بالانضمام إليه اعتبر إهانة لتركيا التي سقطت عندئذ في حضن الإسلام السياسي الذي لا يزال معتدلاً إلى اليوم لكنه يسير في طريق العثمنة والتشدد ما قد يجعل منه عدواً للأوروبيين في يوم من الأيام . وبعد الغزو الأمريكي للعراق في العام ،2003 فإن تفكيك الجيش العراقي العروبي شكل إهانة قادت إلى انضمام آلاف الجنود والضباط إلى المنظمات المتطرفة التي حاربت الأمريكيين وآخرها تنظيم "داعش" . والأمر نفسه ينطبق على الفلسطينيين الذين لايبارحهم الشعور بالمهانة من الجيش "الإسرائيلي" المحتل والذي لن يتمكن من إطفاء جذوة مقاومتهم له بكل الأساليب المتاحة وغير المتاحة .
واليوم فإن إهانة روسيا من قبل حلف الناتو الذي يحاول عزلها وتطويقها بذريعة أنها لم توافق على معاملة سكان أوكرانيا الروس كمواطنين من الدرجة الثانية يمكن أن يجعل من روسيا، وهي قوة نووية عظمى، عدواً للغرب تنبغي محاربته . ومن الحماقة بمكان أن يعمل البولونيون على عزل روسيا على غرار ما فعلت فرنسا حيال ألمانيا في عشرينات القرن المنصرم .
جيوبوليتيك الإهانة هذا قد يؤدي إلى حرب عالمية ثالثة، إذ إننا بتنا نسمع عاليا في واشنطن وموسكو وبعض العواصم الأوروبية، أصوات القوميين والشوفينيين وأطروحات المؤامرة، والتي قد يؤدي تراكمها إلى انفجار صراع بين الجبارين لا نعرف حدوده ومداه .
فهناك الكثير من السياسيين المقتنعين بأن الحروب تحمل حلولاً للأزمات الاقتصادية والمالية لاسيما عندما تعود مصانع الأسلحة إلى نشاطها ويتم فرض الضرائب على المواطنين وإعادة هيكلة الدين العام وفرض الإجراءات الاستثنائية وغيرها بذريعة الدفاع عن الوطن المهدد .
والولايات المتحدة البعيدة عن مسارح الصراعات العالمية والتي لم تعد تحتاج كما في السابق إلى نفط الشرق الأوسط أو آسيا الوسطى، يمكن أن تتبنى هذه الاستراتيجية الصراعية الخطيرة على أمل أن تساعدها على تخطي أزمتها المالية الحادة .
بالطبع فإن أوروبا إذا تركت ناصية القيادة لحليفها الأمريكي في هذا المجال تكون قد انتحرت عملياً لأنها الأقرب إلى ساحات الصراع والأقل قدرة على مواجهته . لذلك عليها قبل غيرها أن تدفع الغرب إلى فتح أبواب الحوار مع العرب والمسلمين والأتراك والروس، تماماً كما فعلت مع ألمانيا المهزومة في الحرب العالمية الثانية العام ،1945 وهو حوار قاد إلى التأسيس لأوروبا الموحدة . ينبغي على أوروبا أن تلعب دور الوسيط بين الغرب والعرب وأن تعرض المشاريع المشتركة والتعاون في الهموم المشتركة كي يشعر العرب بالكرامة وبأنهم يشاركون في صياغة القرار الدولي وبأن هذا الأخير لايتخذ على حساب مصالحهم على الأقل . كما عليها أن تلعب الدور نفسه بين روسيا والغرب تفادياً للدخول في نفق حرب باردة جديدة لا يحتاج إليها العالم في هذه الأوقات العصيبة .
لقد أضحت الإهانة أمراً عادياً في العلاقات الدولية . إذلال الدول ووضعها تحت الوصاية وإبعادها عن دوائر القرار الدولي وابتزاز قادتها وغير ذلك . . ممارسات دبلوماسية أضحت اعتيادية . وهكذا ،كما يقول برتران بادي في كتابه الأخير "زمن المهانين" "الصادر هذا العام عن دار أوديل جاكوب الباريسية"، تنمو "دبلوماسية النادي" أي دبلوماسية مجلس الأمن الدولي أو جماعة السبعة على سبيل المثال لا الحصر، في حين أن الدول الناشئة، كالبرازيل والهند أو تركيا أو القوى العظمى القديمة، مثل روسيا، تجد نفسها مجردة من أي قدرة على المبادرة ومجبرة على تبني استراتيجيات اعتراضية غير منتجة في معظم الأحيان .
ويتساءل بادي: ماذا تكشف هذه الدبلوماسيات؟ ردود فعل المهانين،من مؤتمر باندونع العام 1955 إلى الربيع العربي، ألا تدعو إلى حكم مختلف للعلاقات الدولية؟
يعود برتران بادي إلى التاريخ وعلم الاجتماع السياسي وجذور الإهانة: صعود المشاعر بالثأر ما بين الحربين العالميتين، والاستعمار والتحرر منه من دون السيطرة على المسارات التحررية . . . ليبرهن بأن انتشار الإهانة وإن كان يكرس البزوغ الدراماتيكي للرأي العام والمجتمعات على الساحة الدولية إلا أنه يفضح أيضاً عدم تكيف القوى العظمى التقليدية ودبلوماسياتها مع عالم متعولم ويزداد تعولماً في كل يوم . من هنا ضرورة وإلحاحية إعادة بناء نظام دولي جديد يجد المهانون مكانهم ومكانتهم فيه كما يرتئي بادي الذي يعتبر أن الإهانة هي من أمراض العلاقات الدولية الخطيرة والتي آن الأوان للتخلص منها .

د . غسان العزي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"