الائتمان الميسر ودولة الرعاية

02:34 صباحا
قراءة دقيقتين
د. عبد العظيم محمود حنفي *
يشعر الكثيرون أنهم لم يلمسوا مزايا العولمة. وتُوثِّق الدراسات الأخيرة لأسواق العمل في الولايات المتحدة وأوروبا تقلص شرائح الأيدي العاملة. ويظهر تحليل حديث أصدره البنك الدولي مع صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية أن التجارة قد عادت بمنافع واسعة على الفقراء، لكن منافعها لم يشعر بها الجميع. وفي الكثير من الأماكن، توقفت مداخيل الطبقة المتوسطة عن النمو، وتلاشت الوظائف. ولا يزال الجدل مستمراً حول الأساليب التي يمكن أن تنتهجها الاقتصادات المتقدمة لتحقق ذلك الثلاثي النادر الذي يجمع بين النمو والعدالة الاجتماعية والاستقرار الاقتصادي.
الجدال لا ينتهي حول المفاضلة بين الائتمان الميسر ودولة الرعاية، فقد ظلّت الولايات المتحدة تستخدم الائتمان الميسر كبديل لدولة الرعاية. وبينما اتجه الأوروبيون، لا سيما منذ الحرب العالمية الثانية، إلى بناء دول الرعاية على أساس مدروس والتي وفّرت رعاية صحية شاملة، ومعاشات تقاعد وتأمينات اجتماعية عامة سخية، استخدمت الولايات المتحدة سياسة تنظيمية وضريبية لحفز الاستهلاك والنمو الاقتصادي. والوجه الآخر لهذه المفاضلة بين الائتمان الميسر ودولة الرعاية، هو ما وضعته البلدان الأوروبية من قيود على نمو الأجور والاستهلاك لتسهيل زيادة الاستثمار في الإنفاق الاجتماعي، بينما أنشأت الولايات المتحدة دولة رعاية أقل تطوراً.
ومع مطلع القرن العشرين، وقت الإنتاج الزراعي المفرط الذي أسفر عن موجات من الانكماش وما تزامن معها من نمو المؤسسات الصناعية الكبرى. دفع هذا الأمر الإصلاحيين إلى المناداة بالتنظيم وبتطبيق نظام تصاعدي لضريبة الدخل. ويتحوّل مسار الإصلاح في الولايات المتحدة في الفترة بين تسعينات القرن التاسع عشر وثلاثينات القرن العشرين، من ويليام جينينجز برايان إلى هوي لونج وفرانكلين روزفلت، إلى قصة توفير الائتمان للجميع إلى حد جعل نمو الولايات المتحدة في منتصف القرن العشرين مدفوعاً بما يسميه البعض «كينزية الرهون العقارية». وقد ذهب مؤرخون أمثال إليزابيث كوهين وميج جاكوبز إلى صناع السياسات في الولايات المتحدة منذ عهد فرانكلين روزفلت حتى عهد ريتشارد نيكسون، كرسوا جهودهم لزيادة القوة الشرائية وتعزيز استهلاك الجمهور بغية حفز النمو ورفع مستويات المعيشة. كما أن دور الائتمان الميسر في تحقيق الرخاء في الولايات المتحدة معروف أيضا - مثل البرامج الفيدرالية لقروض المساكن والجامعات وحتى ابتكارات القطاع الخاص، كالشراء بالتقسيط وبطاقات الائتمان.
وتحاجج بعض الدراسات بأن الولايات المتحدة فاقت البلدان الأخرى في تنظيم السوق - من الأمن الغذائي إلى العمل المصرفي - لحماية المستهلك وزيادة الاستهلاك. وأن الحكومة الأمريكية قد بذلت قصارى جهدها لتسهيل اقتراض القطاع الخاص لأغراض امتلاك المساكن، والدراسة الجامعية، وأوجه الاستهلاك الأخرى - من خلال إضفاء الصبغة المؤسسية على ما تمنحه الإدارة الفيدرالية للإسكان من قروض عقارية بدفعات مقدمة منخفضة على المدى الطويل وحتى السياسة الضريبية التي جعلت الفوائد على الرهون العقارية قابلة للخصم من الدخل الخاضع للضريبة. ونصل عند هذه النقطة إلى القصة المألوفة عن الأمريكيين الذين يستدينون بصورة مفرطة، ما أدى إلى فقاعات المضاربة وإلى حدوث الانهيار المالي في 2008.

* خبير اقتصادي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"