الاستفادة من دروس الـ "بريكس"

03:50 صباحا
قراءة 4 دقائق

مجموعة الدول المسماة بريك (البرازيل وروسيا والهند والصين)، والتي انضمت إليها مؤخراً جنوب إفريقيا (ساوث أفريكا) ليصبح اسمها بريكس، تتميز بأنها منذ عقد كامل تقريباً تسجل نمواً اقتصادياً مرتفعاً وثابتاً مع أعلى النسب العالمية في مجال نمو الشركات، أو في عدد براءات الاختراع، أو عدد حملة الشهادات العليا، أو القدرة على جذب الاستثمارات الأجنبية وغيرها من الميادين .

بين بداية ونهاية العقد المنصرم ارتفع حجم الناتج الإجمالي الداخلي في الصين بنسبة 290 في المئة وفي الهند 220 في المئة وفي روسيا 170 في المئة وفي البرازيل وجنوب إفريقيا 150 في المئة (للمقارنة فرنسا البلد الصناعي الكبير 116 في المئة فقط) . على المستوى الاجتماعي انخفض الفقر في البرازيل وروسيا إلى النصف تقريباً والأمل بالحياة لدى الولادة زاد بمعدل خمس سنوات، وفي الصين انخفض عدد الجياع 12 مليوناً لكن عددهم ما يزال نحو المئة والثلاثين مليوناً إلى اليوم .

في الوجه الآخر من العملة لم تستفد الشرائح الأفقر من السكان من هذا النمو المرتفع، بل الطبقات الوسطى والأكثر ثراء، فقد أصبح لدى الصين من الأثرياء ما لدى الولايات المتحدة نفسها، أما في الهند فمايزال عدد هؤلاء أقل بأربعة أضعاف ممّا هو عليه في الصين، رغم أن عدد السكان هو نفسه في البلدين تقريباً، بيد أن عدد الذين يتضورون جوعاً في الهند زاد 75 مليوناً عما كان عليه من ذي قبل، وبالتالي فإن مجموعة البريكس لا تخرج عن قانون كوزنتس الذي يقول إن النمو الاقصادي يؤدي إلى زيادة حدة التفاوت في البداية كون أن الفرص الاقتصادية غالباً ما يستفيد منها المؤهلون والمهيأون لاسيما التجار ورجال الأعمال، في حين أن إعادة توزيع الثروة كي تطال المزيد من الشرائح السكانية تتطلب وقتاً قد يطول أو يقصر بحسب الظروف

والمعروف أن مجموعة البريكس تضم نصف سكان المعمورة تقريباً (2،9 مليار نسمة من أصل سبعة)، وثلاثة أخماس سكان البلدان النامية (5،1 مليار نسمة)، وهي بصدد وضع نهاية لمقولة حتمية التخلف التي طالما أيدها علماء كبار ومنهم الحاصل على نوبل للاقتصاد مثل غونار ميردار(1974) أو جون كينيث غولبراي (1980)، الأول كان يقول إن قوى السوق عندما تعمل بنفسها من دون تدخل تؤدي، في الدول الفقيرة أكثر من غيرها، إلى نمو المزيد من الفروق الطبقية وتكريس فقر الطبقات الدنيا، ما يخلق دائرة مغلقة لا يمكن كسرها إلا بتدخل الدولة، أما الثاني والذي استفاد من تجربته كسفير في الهند، فنشر في العام 1980 كتاباً تحت عنوان نظرية الفقر الشعبي، فيعتقد بأن الفقر في البلدان الفقيرة قدر محتوم لاخروج منه، الأمر الذي يقود إلى التكيف مع الواقع: فعندما أعجز عن تغيير الواقع أتأقلم معه .

لقد تحدّت البريكس هذه النظريات وغيرها بالاعتماد على السوق والدولة معاً . لم تلعب الدولة دور المخطط والموجه لكنها كانت دوماً حاضرة كمسهّل (تربية، بنى تحتية، قروض)، ثم كحام (في مجالات التجارة وسوق القطع والعمليات المالية والمصرفية مع المستثمرين الأجانب)، وأخيراً كمنظّم (سياسات اقتصادية وصناعية تهدف إلى تشجيع الصادرات) . لقد اعتمدت على الليبرالية المفرطة لاسيما في مجال الرواتب والأجور وشروط العمل والمالية العامة، الأمر الذي يشرح التفاوتات الصارخة (ما عدا البرازيل)، والقدرة على اختراق الأسواق العالمية (خاصة في مجال الأنسجة حيث تمكنت من منافسة حتى دول الجنوب الراسخة في هذا المضمار منذ عقود طويلة) .

هذا الخليط من الليبرالية والتدخلية المتجه كلياً نحو التصدير، حقق نجاحاً منقطع النظير ليصبح نموذجاً لا شك في أن دولاً نامية عديدة ستقلده عاجلاً أم آجلاً . لكن من أجل ذلك لابد أن تكون الدولة قوية وليس دولة عصابات أو عائلة أو جماعة معينة تهيمن على السلطة لمصلحتها الخاصة على حساب المصالح الوطنية العليا، أما الشرط الثاني فهو حيازة ما يكفي من الموارد لتمويل بنى تحتية وجهود تعليمية وتربوية ومهنية من دونها لا يمكن للتصنيع أن ينطلق أساساً . ففيما عدا روسيا التي كانت دولة صناعية مع موارد طبيعية وبشرية مهمة، اعتمدت البريكس على الصناعات الزراعية ذات المردود العالي (مع نتائجها السلبية على البيئة كما في البرازيل)، مع التركيز على الأسواق الخارجية، لأن الفقر في الداخل يقف حائلاً دون تصريف البضائع . من هذه الزاوية يمكن النظر إلى البريكس على أنها أولاد العولمة، الأمر الذي يشكل في الوقت نفسه نقطة ضعفها الأساسية .

نجاح هذه الدول التي تتمتع بإنتاجية على النمط الغربي وبأجور على النمط الشرقي، بحسب تعبير عالم الاقتصاد اليوناني أرغيري إيمانويل، يعني أن الأجور لن تبقى على حالها لوقت طويل وهو ما بدأ بالظهور منذ الآن . وبذلك فإن قطاعات عديدة في هذه البلدان ستجد نفسها في مواجهة نظيراتها الغربية المتقدمة، وهنا لن تكون المنافسة مضمونة النتائج، لذلك عليها أن تسارع إلى تأهيل أسواقها الداخلية لتغدو جاهزة لمواجهة احتمال تراجع الصادرات، فالمعروف أن القروض السهلة مع النمو السريع تقود غالباً إلى التضخم، الأمر الذي يعرقل النمو المستقبلي، وهو تحدّ عليها الاستعداد لمواجهته .

في الانتظار يمكن القول إن البلدان العربية تمتلك من المقومات ما يمكنها من الاستفادة من تجربة البريكس أو بعض دولها على الأقل، ولا ننسى أن التكامل الاقتصادي العربي نعمة لا تحظى بها هذه المجموعة التي تباعد ما بين أعضائها عناصر الجغرافيا والتاريخ والثقافة واللغة وغيرها مما أنعم به الله على العرب .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"