الاقتصاد النفطي.. التحديات والمخاطر

05:30 صباحا
قراءة 5 دقائق

د. لويس حبيقة

تواجه الاقتصادات النفطية تحديات كبيرة، ليس بسبب انخفاض سعر النفط إلى حدود لم يكن يتوقعها أحد فقط، بل بسبب سوء التنوع الإنتاجي لمعظم هذه الدول. الوقت مضى من دون توظيف جهود كافية للتنوع، ليس بسبب سوء التوقعات فقط، بل أيضاً بسبب الإهمال والانشغال بأمور أخرى، ربما حولت الانتباه باتجاهات خاطئة. التحديات كبيرة بالنسبة للدول النفطية من ناحية مواجهة الحالة الحاضرة وتمويل الميزانيات وتغيير هيكلية الإنفاق، كما الإيرادات. التحديات كبيرة لأن الوقت يمر بسرعة، ليس بسبب العوامل الاقتصادية الضاغطة فقط، بل أيضاً بسبب الأوضاع السياسية المتوترة في كل المنطقة. ما يجري في سوريا اليوم، وعلى سبيل المثال، ليس حرباً أهلية فقط، وإنما مواجهة دولية بين القوى العسكرية الكبرى. ما يجري لا يعود لأهمية سوريا الاستراتيجية والإنسانية فقط، وإنما لأن الأوضاع الدولية تفرض حدوث حروب بعيدة عن مواقع تلك القوى نفسها. نقول وبكل أسف إننا وضعنا أنفسنا في المنطقة العربية في ساحة حرب لنزاعات غير مرتبطة بمصالح الشعوب والحكومات.
لا يمكن وصف النفط كمصدر للإيرادات الحكومية الوطنية فقط. تأثير النفط أبعد وأكبر بكثير تبعاً لمعظم الدراسات النظرية والتطبيقية. وضع صندوق النقد الدولي دراسات قيمة عن تأثير النفط في الاقتصاد البرازيلي، وتبين أن هنالك علاقات إيجابية مباشرة بين الاكتشافات النفطية والتنمية. تبين أن الاكتشافات النفطية أثرت إيجاباً في الدخل القومي الفردي وفي التطور المدني، ليس قرب الموقع فقط، وإنما حتى عن بعد. تبين أن تأثير النفط كان كبيراً في القطاعات الأخرى مباشرة، ليس بسبب العلاقات بين القطاعات داخل الاقتصاد فقط، وإنما أيضاً بطريقة غير مباشرة عبر تأثير النفط في كل المعايير الاقتصادية والمالية المعروفة. أثر النفط في الناتج المحلي الإجمالي لأنه ساهم في رفع الطلب على السلع والخدمات المتوافرة في الاقتصاد، وبالتالي سبب أيضاً توافر سلع وخدمات جديدة منتجة داخلياً أو مستوردة. وجود النفط ساهم في زيادة الدخل، وبالتالي رفع مستوى المعيشة في المدن والمناطق. تبين أيضاً من الدراسات أن الدول التي تتمتع بمؤسسات عامة قوية ومتطورة استفادت من الاكتشافات النفطية أكثر من غيرها بكثير.
من يدرس أوضاع دول الخليج العربية يتبين له بسهولة أوضاع الإعمار التي حصلت خلال العقود الماضية. استثمرت دول مجلس التعاون الخليجي ليس في البنية التحتية فقط، وإنما في المؤشرات الإنسانية والاجتماعية أيضاً، وأصبحت مضرب مثل للتطور السريع والنوعي. استقبلت على مدى عقود ملايين الكفاءات والعمال الذين حولوا بدورهم الأموال التي ساهمت في تطوير دول المنشأ. ما حصل في دول الخليج يختلف حكماً بين دولة وأخرى، لكنه عموماً يظهر النتائج الإيجابية الباهرة التي تحققت في العقود الماضية. هل كانت النتائج كافية؟ هل هنالك أي مراجعة للسياسات التي اعتمدت؟ أم ما حصل كان أفضل وأقصى ما يمكن أن يحصل في ظروف مماثلة؟ هل استثمرت الدول المعنية الوقت بأفضل ما يمكن، وهل أضاعت بعض الفرص الثمينة، أم ما حصل كان مثالياً بكل ما في الكلمة من معنى؟ لا بد من المراجعة للتأكد مستقبلاً من أن الاقتصادات لا ترتبط كما هو اليوم بالنفط فقط، وبالتالي ربما نقول إن سياسات التنويع لم تكن مثالية وبالتالي تظهر الشقوق والسلبيات اليوم أكثر من أي وقت مضى. هل كان ممكناً عمل الأفضل أو أقله أفضل مما حصل؟ لا بد من مراجعة تجارب ناجحة في مجتمعات متقاربة بكل المعايير لأخذ الدروس والعبر، وربما محاولة النسخ ضمن الوقائع والحقائق.
تجربة ماليزيا مهمة جداً للدول العربية بسبب التركيبة المشابهة للمجتمعات. ارتفع الدخل الفردي الماليزي 20 مرة خلال السنوات الأربعين الماضية. تحقق النمو القوي الذي استفاد منه الجميع، وليس الأغنياء فقط. انخفضت نسبة الأسر الفقيرة من 50% في الستينات إلى 1% اليوم، وهذه معجزة اقتصادية بكل ما في الكلمة من معنى. ماليزيا غنية بالموارد الطبيعية بينها النفط، فاستعملتها بذكاء ما سمح لها بتطويرها وجعل الجميع يستفيد منها. بقي التضخم معتدلاً على مدى العقود وتأسس قطاع مالي كبير وشفاف وفاعل سمح للاقتصاد الحقيقي بالتطور والازدهار. أصبحت ماليزيا اليوم في قلب الاقتصاد الإسلامي الذي لم يعرف السقوط حتى في أسواء أيام الركود الكبير الذي بدأ في سنة 2008. بعد الأزمات الآسيوية والدولية، استعاد الاقتصاد أنفاسه بسرعة مدهشة خلافاً لمعظم الاقتصادات الآسيوية. يستمر تنفيذ الإصلاحات مع مرور الوقت والعهود، والهدف الكبير هو نقل الاقتصاد الماليزي من ناشئ إلى متطور قبل سنة 2020، أي دخل فردي يفوق ال15 ألف دولار سنوياً.
في كتاب جديد، يعرف الكاتبان «اليكس مورموراس» و «نيام شيريدان» عن ماليزيا والإصلاحات التي تحققت عبر عقود من العمل الجاد والكامل، بل المتكامل. ما هي أبرز الخطوات التي تحققت والتي يمكن اقتباس أفضلها لدول مجلس التعاون الخليجي؟
أولاً: معالجة بؤس الفقر والفقراء بحيث يكونون جاهزين للاستفادة من النمو الاقتصادي العام. وبما أن الفقراء يعيشون في المناطق الريفية، قامت الدولة بمساعدة المزارعين على تطوير زراعاتهم ورفع إنتاجيتها. وقدمت الحكومة للمزارعين حق استعمال الأرض وقامت بأعمال الري وقدمت لهم الأدوية الزراعية المناسبة. وتطورت البحوث الزراعية للاستفادة إلى أقصى الدرجات الممكنة من نوعية التربة والطقس والعوامل الطبيعية والمناخية الأخرى.
ثانياً: ساعدت الحكومة العمال الفائضين في الريف للانتقال إلى المناطق الصناعية، وبالتالي استفاد الاقتصاد من كل اليد العاملة في كل المناطق والقطاعات. حررت الاقتصاد من كثير من قيوده القانونية والإجرائية تعزيزاً للمنافسة الضرورية للإنتاجية والتنافسية والتطور. واستفاد القطاعان المالي والمصرفي من هذه الإصلاحات التي وضعت ماليزيا في قلب المجتمع الدولي المزدهر. وتحقق النمو بنسبة 7,4% في سنة 2010، 5,2% في سنة 2011، 5,6% في سنة 2012 و4,7% في سنة 2013. وتشير التقديرات إلى وصول النمو إلى 5,9% و 4,8% في السنتين التاليتين تبعاً لصندوق النقد الدولي.
ثالثاً: قامت الحكومات المتعاقبة بتطوير البنية التحتية في كل أقسامها ونجحت خاصة في قطاعي النقل والطاقة. وخصخصت قطاع الاتصالات الذي يديره القطاع الخاص عموماً بشكل أفضل، فيعطي الأرباح والإيرادات للدولة والمواطنين، إضافة إلى الخدمات المميزة. وطورت القوانين المرتبطة بالاستثمارات والأسواق المالية والتجارة بحيث أصبحت ماليزيا مركزاً للعديد من الشركات الدولية التي استفادت من موقعها وهيكليتها القانونية والمؤسساتية.
رابعاً: لا بد من التنويه بتطبيق إصلاحات في الموازنة عبر ترشيد الإنفاق وتطوير أنظمة المحاسبة العامة، كما الأنظمة الضرائبية. لذا انخفض عجز الموازنة من 10,5% من الناتج في سنة 1986 إلى التوازن في التسعينات، فإلى عجز حديث مقبول جداً أي في حدود 5% من الناتج في أسوأ الظروف الدولية. ولم تتخط نسبة الدين العام من الناتج ال55% بفضل حسن إدارة الإنفاق العام.
لا بد من القول إن السياسات الاقتصادية العادية من مالية ونقدية كانت مرنة، أي تغيرت بسرعة لمصلحة الاقتصاد، ما يشير إلى وجود فساد منخفض أو معتدل سمح للاقتصاد بتحقيق فائض في ميزان الحساب الجاري بلغ 11% من الناتج في سنة 2010 و11,6% في سنة 2011. يبقى فائضاً حتى اليوم وإن يكن بنسب سنوية أدنى أي نحو 5% من الناتج. وسمح هذا الفائض المتواصل بتجميع احتياطي نقدي كبير بلغ 135 مليار دولار في سنة 2013، أي تغطية 7 أشهر من الواردات وهذا ممتاز بكل المعايير. الدروس واضحة والتطبيق ممكن.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"