الانتخابات النمساوية وصعود اليمين المتطرف

03:39 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. غسان العزي

تتكاثر المؤشرات على أن الاتحاد الأوروبي يتجه، بخطوات حثيثة، صوب اليمين الشعبوي المتطرف الرافض للوحدة الأوروبية والعولمة والقيم الليبرالية والمهاجرين. وآخر هذه المؤشرات أتى من النمسا التي كاد يصل إلى رئاستها، في الانتخابات الرئاسية في ٢٢ مايو/أيار الماضي، اليمين الشعبوي المتطرف بشخص نوربرت هوفر مرشح «حزب الحرية». فقد شهدت الدورة الأولى من هذه الانتخابات حدثاً «تاريخياً» تمثل ليس فقط بالصعود المدوي لليمين المتطرف (36% من الأصوات) ولكن بخروج الحزبين التقليديين الأساسيين المحافظ والاجتماعي-الديمقراطي من السباق الانتخابي، وذلك للمرة الأولى منذ عام 1945.
إزاء ذلك وأمام الانتقادات اللاذعة التي تعرض لها والتي حملته مسؤولية هذه الهزيمة المدوية التي مني بها حزبه الاجتماعي-الديمقراطي (حصل مرشحه رودولف هاندستورفر على 11%من الأصوات فقط) اضطر المستشار فرنر فايمان إلى الاستقالة، وهو الذي يقود تحالفاً مع الحزب المحافظ منذ عام 2008.

ليس من الفطنة إنكار أهمية الانتخابات الرئاسية النمساوية باعتبار أن منصب الرئيس النمساوي رمزي أكثر منه تنفيذي، فهذا الأخير ينتخب بالاقتراع الشعبي المباشر، الأمر الذي يعطيه قوة سياسية لا يمتلكها الرئيس الألماني على سبيل المثال. كذلك ليس من الفطنة القول بأن صعود اليمين المتطرف في النمسا «شأن نمساوي داخلي»، إذا علمنا بأن دولاً أوروبية أخرى أساسية مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا تعاني، هي الأخرى، صعود يمينها المتطرف.

والنمسا بلد معروف منذ وقت طويل بهدوئه ووسطيته، لذلك فمن اللافت والخطير أن يستعد للالتحاق بهنغاريا وفنلندا وبولونيا، وهي دول يشارك فيها اليمين الراديكالي بل المتطرف في الحكم. وقد انهالت برقيات التهنئة على المرشح نوربرت هوفر بعد تألقه في الدورة الأولى من الانتخابات، وذلك من قبل نظرائه المتطرفين، من فرنسا (مارين لوبان زعيمة الجبهة الوطنية) وإيطاليا (ماتيو سالفيني زعيم رابطة الشمال) وهولندا (غيرت ويلدرز زعيم حزب الحرية)، دون أن ننسى حزب «بديل من أجل ألمانيا» الذي يتسبب بالأرق «للائتلاف الكبير» الذي تقوده المستشارة انجيلا ميركل.

الأسباب هي دوماً نفسها، والنتائج أيضاً: طبقة متوسطة أضاعت البوصلة بعد أعوام من الأزمة الاقتصادية والعولمة المتسارعة، لتلتقي مع يمين متطرف يلعب بذكاء ورقة الهوية الوطنية المهددة والخوف من الإسلام وتدفق اللاجئين. والنتيجة؟ تراجع سريع للأحزاب التقليدية، لاسيما اليسارية منها، على مستوى القارة الأوروبية برمتها، والتي تخسر ناخبيها ومحبذيها قبل أن تفقد السلطة.
في فرنسا وهولندا يلمع نجم اليمين المتطرف في استطلاعات الرأي، وهذا السيناريو يتكرر في أوروبا الشمالية عموماً. في جنوبي القارة يتشظى المشهد السياسي ليجبر إسبانيا، على سبيل المثال، على إجراء انتخابات تشريعية جديدة في 26 يونيو/حزيران المقبل بسبب العجز عن تشكيل حكومة جديدة بعد الانتخابات التشريعية التي لم تنتج في بدايات العام الجاري ائتلافاً حزبياً قادراً على تشكيل حكومة.
النمسا المعتادة على التحالفات ما بين اليمين واليسار يبدو بأنها بدأت تتخلى عن هذا التقليد. فالحزبان التقليديان الأساسيان اللذان يحتلان المشهد السياسي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لم يجمعا معاً أكثر من 23 في المئة من الأصوات في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية، فاضطرا لتخلية الساحة أمام نوبرت هوفر، الذي لم يكن يعرفه أحد قبل أشهر قليلة من الانتخابات، ومنافسه الإيكولوجي الكسندر فان دربيلن الذي فوجىء، هو نفسه، بنسبة الأصوات التي فاز بها.
في تعليقه على الانتخابات الرئاسية النمساوية قال أحد المفوضين الأوروبيين في بروكسل: «الاتحاد الأوروبي الذي تطوقه الأزمات يدخل بدوره في حقبة من عدم الاستقرار ومن العواصف السياسية المقيمة».
في المحصلة فاز المرشح البيئي الكسندر فان دربيلن بالرئاسة النمساوية في الدورة الثانية من الانتخابات في 22 مايو/أيار الماضي. ولكنه فوز خجول ( 50.3% من الأصوات مقابل 49.7 لنوربرت هوفر) بل فوز يطرح سؤالاً حول معنى الانتخابات، والتي قال هوفر عنها بأنها «مجرد بروفة» للانتخابات التشريعية المقبلة المقررة في عام 2018.
ما جرى في النمسا لا يمكن عزله عن أوروبا، فهذا البلد يقع في وسط أوروبا وما يجري فيه مؤشر لما يجول في العمق الأوروبي والذي يبدو بأنه يعيش تحولات تعصف بالمشهد السياسي الظاهر على السطح. ربما أن هذه ظاهرة غربية وليس فقط أوروبية، إذا ما أمعنا النظر في ظاهرة المرشح الجمهوري الأمريكي دونالد ترامب.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"