الانتخابات النيابية وحقيقة الديمقراطية

04:39 صباحا
قراءة 5 دقائق

مررت شخصياً بتجربة الانتخابات لمجلس الشعب المصري عام 2005 في واحدة من أصعب الدوائر وأكثرها سخونة لأسباب تتصل بالتاريخ السياسي للمحافظة، التى أتشرف بالانتماء إليها، وتغلغل جماعة الإخوان المسلمين فيها بل وأيضاً بعض العناصر الوفدية القديمة بها، فالمدينة التى أمثلها كانت عبر تاريخها الطويل أقرب إلى المعارضة منها إلى دعم سلطة الحكم لأنها عاصمة محافظة افترسها الإقطاع قبل ثورة يوليو ،1952 كما خرج من أحد مراكزها الإمام المؤسس والمرشد الأول الشيخ حسن البنا فضلاً عن الانتماءات القديمة لعائلاتها المرتبطة تاريخياً بالملكيات الزراعية والعقارية، وبرغم أنها محافظة منجبة إذ يكفي أن منها الإمام محمد عبده وحشد من علماء الدين وشيوخ الأزهر ومنها أيضاً توفيق الحكيم وكوكبة من الأدباء كذلك فإن صاحب نوبل نجيب محفوظ ومعه عدد من الروائيين البارزين ينتمون إليها.

إنها محافظة العلماء وفي مقدمتهم أحمد زويل والشعراء ومنهم علي الجارم وفاروق جويدة والفنانين ومنهم محمد عبد المطلب وكارم محمود، بل إن هناك عشرات الأسماء في نواحي الحياة المختلفة تشير كلها إلى بشر متميزين وأرضٍ خصبة وزراعات واسعة وثروة حيوانية كبيرة، ورغم هذا الثراء من الموارد البشرية والطبيعية إلا أنني شعرت أن دائرتي الانتخابية لديها تحفظ غريزي تجاه من يأتيها من خارجها حتى لو كان من أبنائها الذين خرجوا منها ليضربوا في الأرض سعياً وراء علمٍ أو عمل أو رغبة فى حياة جديدة ومستقبل مختلف.

ولقد خرجت من هذه التجربة بكل ما لها وما عليها بتساؤلٍ واحد يتلخص في سؤال محدد: هل الانتخابات هي الوسيلة الأفضل للتعبير الديمقراطي؟ إنني أعلم يقيناً أنها أفضل البدائل وأقل الشرور وأكثر الوسائل تعبيراً عن الشارع حتى الآن، فقد اتفقت عليها الأمم المتحضرة والشعوب الناهضة طريقاً للمشاركة السياسية وسبيلاً للتمثيل النيابي، وبرغم كل العيوب التي تصاحب العملية الانتخابية ومبررات النقص فيها إلا أنها تظل أحسن ما وصل إليه خبراء علم السياسة وأساتذة القانون العام، ولكن تبقى ملاحظات لابد من أن نسجلها بتجردٍ وموضوعية خصوصاً وأننا نستقبل انتخاباتٍ نيابية ليست بعيدة كما أن الوطن يمر بفترةٍ مهمة في تاريخه المعاصر، ولعلي أوجز تلك الملاحظات التي أود أن أشير إليها فيما يلي:

أولاً: إن القول الذي يطلقه البعض عن أن هناك شعوباً لا تصلح معها الديمقراطية لأنها ليست من أولوياتها بسبب شيوع الفقر أو نقص التعليم أو انتشار الأمية هو قول مردود عليه تماماً، والنموذج الهندي أكبر ديمقراطيات العالم، يقدم صفعة قوية لدعاة هذا الرأي بل ولطمة كبيرة لمن يعتقدون أن الديمقراطية خيار مناسب لبعض الشعوب ونقمة على شعوبٍ أخرى، ولقد عايشت التجربة الهندية مباشرةً، من خلال عملي في نيودلهي نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات من القرن الماضي، ورأيت مئات الملايين من ثقافات مختلفة ودياناتٍ متعددة وأعراقٍ متباينة ومستويات معيشية متفاوتة يزحفون نحو صناديق الاقتراع في عمليةٍ تستغرق ثلاثة أشهرٍ كاملة، وآمنت يومها أن فقراء الهند يمثلون أكبر قاعدةٍ ديمقراطية في العالم.

ثانياً: إن الاسطوانة المشروخة التي تتحدث عن أن الشعب المصري لم يحكم نفسه بنفسه عبر تاريخه الطويل إلا في منتصف القرن العشرين تقريباً وهو بذلك غير مهيأ للديمقراطية الكاملة بل هو في حاجة أكثر إلى نظام الحاكم الفرد الرشيد أو حتى الدكتاتور المصلح نقول إن هذه الاسطوانة المشروخة قد أساءت إلينا كثيراً، بل وعطلت مسيرة الديمقراطية في بلادنا وأصبحت مبرراً لكل التجاوزات السياسية أحياناً وتغييب الشرعية الدستورية أحياناً أخرى فضلاً عن العدوان على القانون وسيادته. وأنا أظن أن الشعب المصري لديه استعداد كامل كبقية الشعوب لممارسة الديمقراطية الحقيقية وإن كانت تعوز أجياله الجديدة درجة مطلوبة من التربية السياسية قصرت فيها الأحزاب القائمة والتي كان من المفترض أن تكون مدارس لتخريج الكوادر السياسية وتفريخ القيادات الشعبية.

ثالثاً: إن جماعة الإخوان المسلمين، محظورة ولكن موجودة، تحتاج إلى مراجعة أمينة لتاريخها عبر العقود الثمانية الأخيرة، وأن تعلن صراحةً إيمانها المطلق بالوطنية المصرية قبل غيرها، وأذكر أشقاءنا فيها بأن محمداً صلى الله عليه وسلم عندما أخرج من مكة عبر في كلماتٍ ذهبية يعرفها الجميع عن مفهوم الوطن والارتباط به، كذلك فإن هذه الجماعة التى تربط السياسة بالدين قد بدأت دعوية إصلاحية كان يجب أن تشتبك مع أخلاقيات المجتمع فقط وفقاً لصحيح الدين بدلاً من اللهاث في أروقة السياسة والسعي وراء تطلعات الحكم، وعليها أن تتوقف عن استخدام الشعارات الدينية، وأن تؤكد التزامها بمبدأ أن الأمة مصدر السلطات وتسلم أيضاً بتداول السلطة ودوران النخبة، وأن تتوقف عن التفكير الأحادي النظرة الذي يتحدث بالمطلق ولا يعترف بما هو نسبي، ولا يمكن أن يتحمل الشعب المصري ما يجرى كل انتخاباتٍ نيابية حيث تطفو الاتهامات المتبادلة بين الحزب الحاكم والجماعة المحظورة، شكلياً والموجودة فعلياً، فالحزب يتهمها بأنها تقوم بعملية تزويرٍ معنوي لإرادة الناس عن طريق إقحام الدين في العمل السياسي، والجماعة بدورها تتهم الحزب على الجانب الآخر بالتزوير المادي نتيجة حيازته مواقع السلطة وسيطرته على مصادر صنع القرار، لقد آن الأوان لوقفةٍ موضوعية بين نظام الحكم والجماعة من أجل مستقبل الديمقراطية الحقيقية في مصر، وأنا أكرر هنا مرةً أخرى أن كل القوى السياسية الموجودة في الشارع المصري هي صاحبة حق في التعبير عن إرادة الشعب بكل ألوانه وأطيافه مهما يكن اختلافنا عليها أو اتفاقنا معها شريطة أن تقف هذه القوى على أرضية وطنية ثابتة تعلي من مفهوم المواطنة وتجعل له الأولوية على ما عداه.

رابعاً: ليس صحيحاً أن الانتخابات تفرز أفضل العناصر، في مصر أو في غيرها، فالشعبية وحدها لا تعبر عن درجة الصلاحية ولا تترجم الإمكانات الحقيقية لمن يكون نائباً عن الشعب وتلك إشكالية كبرى حيث تلعب بعض العوامل دورها المعتاد في المساس بسلامة جوهر العملية الانتخابية، وأنا أذكر هنا صراحةً بعض العوامل ومنها الدين والمال والنفوذ العائلي بل والسطوة الفردية التي قد تصل إلى حد البلطجة وهذه أمراض مزمنة يجب أن يتعافى منها المجتمع السياسي المصري حتى تتمكن العناصر الصالحة من الطفو على السطح، وبهذه المناسبة فإنني أظن أن إجراء الانتخابات وفقاً لنظام القائمة النسبية كان يمكن أن يقاوم بعض التحديات الناجمة عن العوامل السلبية التي ذكرناها.

خامساً: إن مصر بلد قديم وشعب عريق كان يقدم دائماً مشروع الدولة النموذج لأشقائه في المنطقة العربية بل وغيرهم من دول العالم الثالث، ولقد حان الوقت الذي يجب أن تستعيد فيه مصر عافيتها القومية ودورها الريادي، فمصر ليست بلداً عادياً ولكنها دولة استثنائية بحكم المكان والمكانة وبمنطق التاريخ والحضارة, وإذا كان دورها في القرنين التاسع عشر والعشرين قد ارتبط بحملها لشعلة التنوير ورسالة التعليم ونشر الثقافة فإن الوقت قد حان لكي تتقدم مصر بأدواتٍ جديدة إلى المنطقة كلها تتصدرها بالممارسة السياسية ومناخ الحريات وسيادة القانون ورعاية حقوق الإنسان وتطوير التعليم والبحث العلمي، فتلك هي مفردات العصر وأدوات النهضة بعد أن لعبت مصر دوراً تحريرياً وتنموياً، عبر قرنين كاملين، على المستويين العربي والإفريقي.

هذا طواف سريع حول قضية مهمة يتوقف عليها مستقبل هذا الوطن، وأعني بها قضية المشاركة السياسية ودورها في رسم خارطة الطريق وتحديد مسار المستقبل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"