البحبوحة الاقتصادية والمبادىء السياسية

01:39 صباحا
قراءة 5 دقائق
لويس حبيقة

قال «ليون تولستوي» إن التاريخ الاقتصادي هو شخص أصم يجيب عن أسئلة لم تطرح عليه من قبل أي اقتصادي. فالتاريخ هو مصدر للمعلومات التي يجب أن يستفيد منها الحاضر. التجارب موجودة، لكن الاستفادة منها قليلة حيث تتكرر الأخطاء والخسائر. على سبيل المثال، مجموعة «البريكس» كانت مزدهرة منذ سنوات قليلة إلى أقصى الحدود الممكنة. غيرت في مسيرتها الناجحة اتجاهات رؤوس الأموال والاستثمارات ، وجعلت طرق ووسائل الأعمال تختلف كما لم يكن معروفا من قبل. أما اليوم فهي تعاني بدرجات مختلفة، لكنها في كل حال لم تعد مضرب مثل للنجاح الاقتصادي الفريد.

كان النمو البرازيلي 2,7% في سنة 2011 وأصبح سلبيا في سنة 2015 مع نسبة 1,7% في الفصل الثالث من السنة الماضية ليس فقط بسبب تدني أسعار المواد الأولية بل أيضا بسبب سوء الإدارة والفوضى والفساد ، كما بسبب المشاكل القانونية والقضائية التي تتعرض لها رئيسة البلاد. أما نمو الناتج الروسي، فكان 4,3% في سنة 2011 وأصبح سلبيا السنة الماضية بنسبة 3,4% بسبب العقوبات وتدني أسعار النفط وانخفاض حركة الاستثمارات والتبادل الاقتصادي مع الخارج. إفريقيا الجنوبية لا تتعافى أبدا من مشاكلها المتنقلة من السياسة إلى الاقتصاد والفساد، وها هو نموها ينخفض من 3,6% في سنة 2011 إلى 2,1% في سنة 2015. أوضاع الفقر والفقراء تختلف حكما بين دولة وأخرى.

وحدها الهند تخطو خطوات إيجابية باستقرار واعتدال وتعتبر الدولة الوحيدة من المجموعة التي تدير أمورها بدقة وعناية. الموضوع ليس اقتصادياً فقط، وإنما ثقافي متوارث من أجيال إلى أخرى. نما الاقتصاد الهندي ب 8,9% في سنة 2011 وتدنت النسبة إلى 5,6% في سنة 2015، إنما تبقى نسبة محترمة بكل المعايير. أما الصين فنموها انخفض إلى النصف سنويا خلال عقد من الزمن. أنتج النموذج الصيني على مدى عقدين تنمية مدهشة رفعت أكثر من 500 مليون شخص من الفقر وطورت أنظمتها الاقتصادية والمالية تحديدا. في الحقيقة لم يعد ممكنا لنسب النمو المرتفعة نفسها أن تستمر إلى ما لا نهاية، إذ لكل مسيرة وقتها وظروفها ولا بد للأوضاع من أن تتغير دون أن يؤشر ذلك إلى استحالة العودة إلى النمو القوي في ظروف عالمية وداخلية مختلفة.

مؤخرا، نما الاقتصاد الصيني بنسب 9,5% في سنة 2011 و 6,8% في سنة 2015. يحدث هذا الانخفاض السريع مشاكل اجتماعية وسياسية واقتصادية لاقتصاد اعتاد على النمو القوي المتواصل. لذا تحاول الصين بكل قوتها تعزيز علاقاتها الخارجية الاقتصادية كما ظهر مؤخراً مع إيران وأوروبا وفي الماضي مع إفريقيا. هنالك من يعتقد أن الإحصاءات الصينية غير دقيقة، بل مسيسة بحيث لا تعبر عن الواقع الحقيقي في فترات النهوض أو الركود. فالسؤال المطروح حاليا هو هل الصين في وضع أسواء مما تظهره الإحصاءات المعلنة؟ هل تغطي الصين أوضاعها الحقيقية عبر إحصاءات مضخمة مغلوطة؟ اعتمدت الصين برامج الخمس سنوات المتتالية آخرها ال 13 الذي يغطي فترة 2016- 2020 . تسعى الصين إلى تقوية نفوذها الدولي آخره عبر إنشاء المصرف الآسيوي للاستثمارات والبنية التحتية ليس فقط للتأثير اقتصاديا وإنما لمنافسة المصرف الآسيوي للتنمية في مانيلا الذي يرأسه ياباني. صين اليوم غير صين الأمس، وهذا ما يظهر بوضوح أكبر بين فترة وأخرى.

لماذا انحدر النمو الصيني والى ماذا يؤشر هذا التغيير الكبير في الظروف والوقائع الاقتصادية؟ في مؤتمر دافوس الأخير، كان هنالك قلق كبير من الوضع الصيني حيث اعتبر انه السبب الأساسي للتراجع الاقتصادي الدولي. قال المستثمر العالمي «جورج سوروس» إن الاقتصاد الصيني سيهبط بقوة وسرعة وليس تدريجيا كما يعتقد البعض. قالت «كريستين لاغارد» مديرة صندوق النقد الدولي إن مشكلة الصين الأساسية تكمن في سوء التواصل بشفافية مع المجتمع الدولي وهذا موضوع ثقافي أيضا.

أولا: انخفاض الطلب العالمي على كل شيء بما فيها السلع الصينية. من غير المنطقي أن يستمر الطلب القوي في ظروف انحدار اقتصادي عالمي ليس فقط في أوروبا وإنما أيضاً في منطقة الشرق الأوسط بسبب أسعار النفط. أما اليابان، فخفضت فائدتها إلى المستوى السلبي كي تشجع الاستثمارات النائمة.
ثانيا: ارتفاع تكلفة العمل والأجور بحيث لم يعد العامل الصيني يقبل بما كان يعطى له في الماضي. بفضل الإنترنت والصحافة والإعلام، أصبح المواطن الصيني واعياً لحقوقه وبالتالي يطالب بها أو بجزء منها. تغيير السياسة السكانية للصين وإلغاء «الولد الواحد» مهم جدا وسينعكس على توافر اليد العاملة مستقبلا.
ثالثا: ارتفاع فجوة الثروة والدخل بين طبقات الشعب في ظل نظام سياسي شيوعي يعتمد على حكم الحزب الواحد. كما أن تفاقم المشكلة البيئية فرض عدم تجاهلها أو التقليل من أهميتها خاصة بعد اتفاقية باريس في آخر السنة الماضية.
رابعا: وجود طاقات إنتاجية فائضة تسبب انخفاضا في الأسعار في وقت يكون فيه الطلب خفيفا. مشكلة الفساد المتفاقم وترابط مصالح القطاع الخاص مع العام أو ما يعرف بتضارب المصالح تسيء كلها إلى النمو. في مؤشر الفساد الدولي، تقع الصين في المرتبة 83 من أصل 167 دولة مقيمة، وذلك مقارنة مثلا مع المرتبة 23 للإمارات و 123 للبنان. لا شك أن الفساد يترافق إجمالاً مع النمو القوي، لكن في الصين أصبح خارج السيطرة الفعلية.

أما قوة الصين الأساسية اليوم، فتكمن في تعزيز التعليم بحيث يشكل عدد الطلاب الجامعين داخلها 17% من المجموع العالمي مقارنة ب 12% للهند و11% للولايات المتحدة. هنالك تركيز واضح على دراسة العلوم والهندسة في مختلف درجات التعليم الجامعي. العدد لا يعني طبعاً النوعية التي تتحسن بدورها مع التواصل مع جامعات الغرب. هنالك أكثر من 400 ألف صيني يدرسون في الخارج أكثريتهم في الهندسة والعلوم، نصفهم يدرس في الولايات المتحدة التي تبقي أفضلهم للتدريس أو للقيام بالبحوث العلمية. أكثر من ربع الطلاب الأجانب في الولايات المتحدة هم صينيون وهذا مقصود ويدخل ضمن الاستراتيجيات والمصالح المشتركة التي تزدهر ضمن المنافسة بين الدولتين في كل شيء. في التصنيف الدولي هنالك 32 جامعة صينية ضمن ال 500 الأفضل، بينها أيضا 146 جامعة أمريكية، 38 بريطانية، 39 ألمانية و 19 يابانية. الصين تتقدم وهذا معترف به دوليا وواضح. تنتج الجامعات الصينية بحوثا علمية مهمة في العدد والنوعية، 13% من المجموع في السنوات الأخيرة. هنالك العديد من البحوث والمقالات العلمية مكتوبة من قبل باحثين صينيين وجنسيات أخرى تشير كلها إلى عمق التعاون العلمي والجامعي بين الصين وكافة الدول المتقدمة.

تظهر جميع هذه الوقائع أن الخريطة الاستثمارية العالمية تتغير من جديد باتجاه مناطق ودول أخرى ستظهر معالمها وقوتها قريبا. تختلف إدارات هذه الدول تبعا للأنظمة السياسية المعتمدة. الحقيقة أن دور العقيدة خف عالميا، وأن الدول تريد تحسين أوضاع شعوبها ومستعدة للقيام بما يجب لتحسين الظروف الاقتصادية للشعوب مما ينعكس هدوءاً سياسياً وتعاوناً شعبياً مع السلطات. ما حدث ويحدث في الصين يشكل مثالاً مهماً لمسيرة طويلة بدأت بالشيوعية وتمر اليوم بالرأسمالية الاقتصادية وربما تنعكس قريباً تغييراً كبيراً في الحكم والممارسة. البحبوحة الاقتصادية تتقدم على المبادئ السياسية في الأهداف والممارسة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"