التعامل مع تغير الأزمنة

02:42 صباحا
قراءة 3 دقائق

هناك قول لأحدهم بأن كل الأحزاب تموت في النهاية مختنقة بابتلاع كميات هائلة من أكاذيبها، وينطبق هذا القول على كثير من الحكومات، وينطبق أكثر على كثير من حكومات العرب، ولعل أكبر وأنصع كذبة تهدد الأنظمة السياسية العربية ترديدها اليومي بأنها لن تسمح لأحد بأن يتدخل في شؤونها الداخلية التي تعتبرها أموراً سيادية. لكن الواقع يفضحها ويعري ما تبتلعه من تدخلات وإهانات ووصايات ستؤدي في النهاية إلى اختناق وموت بعضها، فبدءاً بالمحاضرات والتوجيهات السياسية التي تصدر عن الرئيس الأمريكي ووزراء خارجيته ودفاعه، أو حتى ممن يماثلهم في بلدان مثل فرنسا أو انجلترا، وتوجه حتى إلى اجتماعات القمم العربية القومية والإقليمية، ومروراً بالسيل الجارف من المسؤولين والإعلاميين الغربيين الذين يطلّون يومياً من على شاشات بعض وسائل الإعلام العربية والأجنبية وهم ينتقدون ويحللون ويدافعون عن مصالح وإيديولوجيات بلدانهم، وانتهاء بالسفارات التي تصدر التصريحات وتجتمع بمن تشاء وتتكلم عن حقوق هذه الجماعة أو تلك وتدفع المعونات لأزلامها وترسل البعثات لغسل أدمغة مسؤولي المستقبل.. بدءاً وانتهاءً بذلك تتضح صورة بؤس عودة الاستعمار إلى وطننا العربي بينما نكذب وندّعي عكس ذلك وأننا دول حرة مستقلة.

وتتغير الدنيا كلها ولكن الكذب على الناس وعلى النفس يستمر. فبينما تستطيع دولة فقيرة كبوليفيا في أمريكا الجنوبية طرد السفير الأمريكي لتدخله في شؤونها الداخلية تعجز بعض الأنظمة العربية عن طرد سفير صهيوني واحد احتجاجاً على حرق الأخضر واليابس في الجنوب اللبناني، وتعجز كل الأنظمة العربية عن استدعاء سفير أمريكي للاحتجاج على تصرفات أمريكا الحمقاء في أماكن من مثل مجلس الأمن وفلسطين ولبنان وسوريا والعراق والصومال والسودان، بل وفي كل الأرض العربية بأشكال مختلفة، وبينما تنتفض روسيا لكرامتها ومصالحها القومية وتعلن عن خطوط حمر ستدافع عنها مهما كان الثمن، يبقى الهوان العربي أمام التدخلات الخارجية بلا سقف لا يسمح بتخطيه وبلا قاع لا يسمح بالنزول تحته.

وبينما بدأت أصوات الاعتراض على الهيمنة الأمريكية ترتفع في كل مكان، من كوريا الشمالية التي تراجع سياساتها من جديد، إلى إيران التي تدافع عن حقها في امتلاك التكنولوجيا الذرية إلى هيئة الأمم التي تحاول تقليص الهيمنة الأمريكية على قرارات مجلس الأمن إلى الباكستان التي بدأت تضيق ذرعاً بالنزق الأمريكي، بينما كل ذلك يحدث لا تسمع عن حكومة عريبة واحدة تبحث مراجعة سياساتها تجاه الولايات المتحدة، وكذا الأمر نفسه بالنسبة للنظام الإقليمي العربي ممثلاً بالجامعة العربية لكأن الزمن في أرض العرب يتوقف ويتجمد عند كل محطة في التاريخ.

والسؤال هو، هل أن الآخرين يملكون الشجاعة بينما لا نملكها نحن؟ لكن أنظمتنا تمارس أقوى أنواع الشجاعة في تعاملها مع الضعاف في مجتمعاتها، وينطبق عليها قول الشاعر شيلي: "جبان مع القوي، مستبد مع الضعيف". هل هي قضية إرادة سياسية؟ ولكن الأنظمة العربية تملك إرادة حديدية مع معارضيها. وقديماً قال أحد أبطال شكسبير بأن الجبناء يموتون مرات كثرية قبل أن يدخلوا قبورهم، لكن أنظمتنا لا تموت ولا تدخل القبور. ومع أن الشاعر آرثر غيترمان كان يدّعي بأنه عندما تصبح الحياة مرّة وتنسد أبواب الأمل الأصم فإن العالم يقول: "اذهب" ويقول القبر "تعال، مرحباً"، إلا أن العالم العربي لا يفعل ذلك مع من يملأون حياته حزناً ويسدون أبواب آماله، إن الصمم أصاب هذا العالم العربي نفسه فبدأ بفقد احترامه لكرامته.

مواجهتنا لقضية علاقتنا الشائكة المحزنة مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي تتصف بالخوف والتردد وتنتهي بالجبن وشلل الإرادة، وصلت إلى مستوى الكارثة. ومثلما نصل دائماً متأخرين في كثير من فهمنا للعصر الذي نعيش سنفعل الأمر نفسه بالنسبة للعصر الجيو-سياسي الجديد في العالم، كل العالم بدأ يدرك أن الهيمنة الأمريكية ليست قدراً إلا نحن. إننا مازلنا نفتح عيوننا في صبيحة يوم من أيام الثمانينات من القرن الماضي عندما أعلن عن سقوط الاتحاد السوفييتي وصعود النجم الأمريكي.

إنه موضوع الزمن، موضوع الوقت، في حياة العرب، إن مرور الوقت لن يسعفنا وتغير الأزمنة هو حصيلة إرادة، أما الوقت فإنه يطير ويطير ويترك الذين لا يعرفون قول كلمة "لا" وراءه في حالة زفرات وحسرة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"