التعليم عن بعد ورهانات الجودة

03:36 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.إدريس لكريني

تقدّم التكنولوجيا الحديثة في عالم اليوم فرصاً حقيقية لتطوير المنظومة التعليمية على شتى المستويات، وهو ما تؤكده الكثير من التجارب الدولية الرائدة في هذا الصدد، وقد أضحى التعليم عن بعد أحد السبل الداعمة للجودة في العملية التعليمية، ولحوكمتها، فعلاوة على ما يتيحه الأمر من ترشيد وتجاوز لعدد من الصعوبات الناجمة عن ضعف الإمكانيات ونقص البنى التحتية والطاقم التأطيري، فقد أضحى اعتماده معياراً لرصد تقدم وانفتاح المنظومة التعليمية، ومقياساً لدرجة تطورها وجودة مخرجاتها..
تبرز التقارير والدراسات الميدانية تموقع الجامعات العربية في مراتب متدنية، سواء من حيث تهالك البنى التحتية أو على مستوى تردّي مخرجاتها ومناهجها، أو في ارتباط بعدم مسايرة التطورات العلمية والتقنية التي يشهدها العالم في هذا السياق، وبخاصة مع قصور التعليم التقليدي في الاستجابة للحاجات المطروحة.
تؤكد التجارب التعليمية الدولية الرائدة، أهمية توظيف التكنولوجيا الحديثة في تجويد العملية التعليمية، بما يدعم النجاعة والفعالية وتجاوز التعقيدات والإكراهات الإدارية والمالية.
فتحت التكنولوجيا الحديثة إمكانات وفرصاً واعدة في دعم التعليم عن بعد في عدد من الجامعات في مناطق مختلفة من العالم، ففي أوروبا وأمريكا استفاد الملايين من طلاب العلم من برامج تندرج في إطار التعليم عن بعد الذي يعد بحق أسلوباً حديثاً، يندرج ضمن آليات التعليم الذاتي، التي تقوم على توظيف برامج وتقنيات إلكترونية تتجاوز المكان والزمان.. وهو يجسد بذلك تقنية حديثة لترسيخ تعليم يعتمد في أسلوبه على نقل المعارف لمناطق نائية بسبل مختلفة، وقد برز هذا الأسلوب في أواخر الستينات من القرن الماضي داخل بعض المؤسسات الجامعية الدولية، بصورة تعتمد على المراسلة ونقل المحاضرات المطبوعة والكتب، وانخراط الطلاب في مواكبة الدروس والتمارين والاختبارات، قبل توظيف قنوات الإذاعة والتلفزيون فيما بعد في هذا الإطار.
وشكّل ظهور الإنترنت وانتشار استخدامه فرصة كبيرة أتاحت توظيفها بكثافة في هذا الصدد، عبر استخدام البريد الإلكتروني والمجموعات الإلكترونية وبرامج الاتصال والحصص التفاعلية والفيديو.
تتشكّل عناصر ومكوّنات التعليم عن بعد في الوقت الراهن من الحاسوب، والربط بالإنترنت، والبرامج التعليمية، إضافة إلى الأستاذ والمتلقي والتّقني، ويبدو أن كسب رهانات هذا التعليم كإضافة نوعية تدعم الجودة في هذا الحقل الحيوي، يتطلب كفاءات علمية مدرّبة على استخدام الحاسوب وعلى توظيف البرامج وتصميمها بشكل جيّد.
ينطوي التعليم عن بعد على أهمية كبيرة في عالم اليوم؛ فهو يدعم قدرات الشباب لمواكبة مستجدات الشغل، كما أنه يتيح تطوير الإمكانات المعرفية عبر الحدود، فيما يلاحظ أن أسلوبه مرن يتجاوز الزمن والمكان وصعوباتهما.
يشهد هذا الشكل من التعليم انتشاراً واسعاً في الوقت الراهن لجدواه ونجاعته وكلفته المتواضعة، فقد أسهم في توسيع دائرة الاستفادة من المعرفة لأكبر عدد من الطلاب، بما يدعم تجاوز الاكتظاظ نتيجة النقص الحاصل أو الغياب الكامل للإمكانيات والبنى التحتية.
يسمح التعليم عن بعد أيضاً بتوظيف التكنولوجيا في ترسيخ المعرفة ودعم البحث العلمي بشكل عام، كما يضمن الاستفادة من الكفاءات والخبرات خارج الحدود والانفتاح على تجارب تعليمية متطورة، علاوة على تيسير الولوج إلى المعلومات وتحويل المضامين العلمية والتربوية إلى مواد إلكترونية تنسجم وحاجات وتوجّهات جيل الشباب، كما يقدّم برامج صوتية خاصة بالنسبة لفاقدي البصر.
ثمّة مجموعة من العوامل التي تفرض استحضار هذه التّقنية الحديثة في العملية التعليمية بالمنطقة العربية، تتركّز في المشكلات التي تواجه منظومة التعليم بعدد من هذه الدول، في ارتباطها بالاكتظاظ ونقص أو غياب البنى الأساسية وارتفاع نسب الهدر المدرسي والجامعي، وضرورة ترسيخ العدالة التعليمية، وتقريب التعليم من المواطن، واعتماد تقنيات أكثر تأثيراً وفعالية في العملية التربوية.
حقيقة أن التعليم عن بعد لا يمكن أن يقضي على الاختلالات العميقة التي تعرفها المنظومة التعليمية في عدد من الأقطار العربية، ولكن من شأن تشجيع اللجوء إليه، التخفيف منها بصورة ملحوظة.
يصطدم اللجوء إلى هذه التقنية في المؤسسات التعليمية في المنطقة بعدد من الصعوبات والتحديات، يمكن إجمالها في كلفة التجهيز وإحداث البنى اللازمة لإرساء هذا الخيار، ووجود عقليات تقليدية لا تستوعب أهميته، إضافة إلى غياب التكوين المستمر والجهل باستعمالات شبكة الإنترنت، والتقليل من أهمية الشهادات الصادرة عن هذا التعليم؛ بإقصاء حامليها من ولوج بعض الوظائف في القطاعين العام والخاص، أو غياب الجدية والمصداقية في منح هذه الشهادات، واعتماد أساليب وتقنيات متخلّفة وغير ناجعة في هذا الصدد، بصورة تنقصها الكفاءة والمصداقية.
إن المراهنة على التعليم عن بعد في عالم اليوم هي مراهنة رابحة بكل المقاييس، تؤكدها التجارب العالمية المتطورة في هذا الشأن، وهو ما يفرض استحضار عدد من المداخل التي من شأنها تعزيز مكانته ضمن منظومة التعليم، والتي تتركز أساساً في تعميم الربط بالإنترنت داخل المؤسسات التعليمية وفي المناطق النائية، وتوفير الإطار القانوني اللازم لتشجيع وتبني هذا الخيار، إضافة إلى ضمان جديته وجودته بما يتيح الاعتراف بالشهادات الصادرة في هذا الإطار.
كما يتطلب الأمر أيضاً ضمان الاستمرارية في الأداء، واحترام حقوق المتلقّي، وتوفير التقنيات التكنولوجية والبنى اللازمة لإنجاح العملية، وتنظيم التكوينات المستمرة للأطر التعليمية والإدارية والطلاب، مع الحرص على المواكبة والتقييم المستمرين للعملية، بما يسمح بمراجعتها وتطويرها تبعاً لتقدّم التكنولوجيا وتطور المضامين والمناهج.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"