التمثيل النيابي وتصويب المسار

05:11 صباحا
قراءة 4 دقائق

منذ مطلع العام الجاري لم تعد التطورات في ليبيا تستحوذ على اهتمام كبير، ويعود ذلك في الأساس إلى البلبلة الجارية نتيجة المنازعات التي لا تتوقف بين ثوار سابقين، أسهموا في تغيير الوضع، وبين المجلس الانتقالي الحاكم . وقبل أربعة أسابيع فقط كان عدد من هؤلاء قد طوقوا مطار العاصمة طرابلس وأوقفوا الرحلات الجوية فيه احتجاجاً على اختطاف الحاكم العسكري لمدينة ترهونة، فيما تستمر منازعات قبلية ومناطقية تودي بالعشرات وتلقي بظلالها على سيطرة الحكم الجديد على البلاد . وتثور تنازعات وتباينات حتى داخل المجلس الانتقالي الحاكم، نتيجة ضعف الخبرة السياسية، حيث يبيح البعض لأنفسهم تداول أوجه الخلاف عبر وسائل الإعلام بدلاً من معالجتها تنظيمياً، بصورة ديمقراطية داخل أروقة المجلس، في حين ترتفع دعوات إلى الفيدرالية في ولاية برقة على الحدود مع مصر، لإحياء نظام الولايات الذي كان قائماً في عهد الملك إدريس السنوسي .

على أن التحضيرات لانتخابات مجلس نيابي تأسيسي أسهمت في تصويب المسار، وفي جمع شتات الليبيين نحو هدف وطني مركزي يؤسس لبناء ليبيا حديثة تقطع مع الماضي . الانتخابات مقررة يوم السابع من يوليو/ تموز الجاري لاختيار 200 عضو، وفق نظام انتخابي يمنح ثلثي المقاعد لقوائم حزبية، والثلث الباقي لمستقلين يترشحون فردياً . فترة المجلس انتقالية تمتد ل 18 شهراً، وسيكون على رأس أولويات المجلس المنتخب وضع دستور دائم للبلاد بتشكيل لجنة من داخله وخارجه تناط بها هذه المهمة، مع تشكيل حكومة جديدة تخلف حكومة عبدالرحيم الكيب الحالية، وإن لم يكن من الواضح حتى تاريخه كيف يمكن وضع خطوط فاصلة بين صلاحيات حكومة منتخبة، وبين المجلس الانتقالي الحاكم في إدارة شؤون البلاد، وكذلك مصير المجلس نفسه، ومتى تنتهي ولايته المؤقتة . ومن المقرر تمكين مراقبين تكلفهم الجامعة العربية، ومراقبين أوروبيين من متابعة العملية الانتخابية وهي الأولى منذ نحو نصف قرن، علاوة على المراقبين المحليين .

تتنافس على المقاعد قوتان كبريان إحداهما تمثل الوطنيين المدنيين، وشطر كبير منهم ذو مرجعية إسلامية، والثانية تمثل مجموعات إسلامية بينها جماعة الإخوان المسلمين، ولكن بمسميات جديدة . وكان عبدالحكيم بلحاج العضو في المجلس الانتقالي قد أعلن عن نية الإخوان إحياء الجماعة باسم جديد، أما القوى المدنية فتضم نحو 40 كتلة حزبية واجتماعية واقتصادية .

وفي واقع الأمر، فإن تبديد الحياة السياسية والعامة وحرمانها من الوجود الذاتي المستقل على مدى أكثر من أربعة عقود، وتشرد النخب السياسية والاجتماعية في الخارج أو زجها في سجون الداخل، هو الذي يفسر ما بدا تخبطاً في ظهور أجسام سياسية وتكتلات حزبية ذات شأن ووزن، منذ سقوط حكم القذافي، بالتوازي مع يقظة الأجسام التقليدية من ممثلي القبائل والمناطق والعائلات لملء حالة الفراغ الذي خلفه النظام السابق . وقد أسهم في تفاقم الوضع انتشار الأسلحة وسيطرة جماعات مختلفة على مخازن العتاد مع سقوط حكم القذافي في 22 أغسطس/آب من العام الماضي، وولاء بعض الثوار الذي تحول إلى مناطقهم وإلى الزعامات الاجتماعية فيها، وحتى رفض بعض مجموعات الثوار حل مجموعاتهم بعد انضمام أفرادها إلى وزارتي الدفاع والداخلية، ضمن خطة دمج هؤلاء في مؤسسات الدولة الوليدة .

وواقع الحال أن هذه الصعوبات البنيوية الظاهرة، هي جزء من التركة الثقيلة لنظام القذافي الذي نجح في تحويل الدولة الليبية إلى لا دولة، وحرم الليبيين من المشاركة السياسية، ومن تمثيلهم في مؤسسات منتخبة حتى على مستوى المحليات (البلديات)، فضلاً عن النقابات والجمعيات والاتحادات وهذه كلها كانت غائبة في أثناء حكمه، وضرب عُرض الحائط بمبدأ سيادة القانون، وجعل من المؤسسة العسكرية مجرد كتائب لحماية انفراده بالسلطة . ولئن كان المرء لا يأتي بجديد بالتذكير بما سبق ذكره، إلا أن التشديد عليه ضروري في مناسبة الانتخابات هذه، لدحض التفسيرات الخاطئة وغير النزيهة التي يذهب أصحابها إلى أن موجة التغيير التي حملها الربيع العربي، هي المسؤولة عما آلت إليه الأحوال من اضطراب، وبعض مظاهر تفكك في بلد عمر المختار .

الانتخابات النيابية المرتقبة في بحر هذا الأسبوع، تشكل بلا ريب نقطة تحول في البناء التشريعي والدستوري للدولة الليبية التي يُعاد إحياؤها وبناؤها، وذلك بعد عبور الانتخابات المحلية (البلدية) في فبراير/ شباط الماضي . ومن شأن هذا الاستحقاق أن يفرز خريطة وطنية للتمثلات السياسية والحزبية والاجتماعية، ويوفر وعاء تشريعياً، ويضمن الفصل بين السلطات، ويعزز شرعية الحكم الجديد، ويقطع الطريق على أية فوضى سياسية، أو محاولات انفصالية تحت رايات عرقية وفيدرالية، ومعها مظاهر ازدواجية السلطة بين مؤسسات أمنية تمثل الدولة وتحتكم الى القانون، وأخرى تنشط على الأرض بحكم الأمر الواقع وحيازة السلاح .

والراجح أن هذه المناسبة سوف تعيد الاهتمام الإقليمي والدولي بأحوال هذا البلد، وسيرقب المهتمون بشكل خاص ما ستؤول إليه العلاقات الليبية مع دول الجوار العربي والمغاربي: مصر وتونس والجزائر، بعد أن شهدت هذه العلاقات اضطراباً ملحوظاً وحالات مد وجزر منذ أواخر العام الماضي، علماً أن الاهتمام لم يكن غائباً في الأشهر التسعة الماضية على الصعيد الاقتصادي، وتدفق المستثمرين وممثلي الشركات لالتماس فرص استثمارية في هذا البلد النفطي .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"