التنمية والسياسة في العالم العربي

01:59 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو
تبدو المآزق السياسية العربية، في أحد أشكالها، نتيجة طبيعية لتعثر عمليات التنمية في البلدان العربية. ولئن تباينت مشكلات التنمية بين دولة وأخرى في عالمنا العربي إلا أن المحصلة العامة هي تأخر العمليات التنموية، وصولاً إلى أزمات سياسية داخلية، وأزمات مرتبطة بالأمن القومي العربي. ولا يمكن، في حالٍ كهذا، فصل مشكلات الداخل عن مشكلات العالم العربي مع محيطه الإقليمي، خصوصاً أن تماسك المجتمعات في بناها الداخلية هو أمر ضروري لتماسك الدول في مواجهتها لمحيطها الجيوسياسي.
عمليات التنمية على مستوى الدول ليست قفزة في الفراغ، وإنما هي خطط استراتيجية تتسم بالاستمرارية، وبإعادة التقييم، وكشف مكامن الخطأ في حال وجودها، وتهدف إلى توظيف الموارد البشرية والطبيعية والمعرفية بغية الارتقاء بالمستوى العام لحياة الشعوب، ما يجعلها بعيدة عن مواجهة الأزمات الاقتصادية، وما يترتّب عنها من مشكلات اجتماعية وسياسية، خصوصاً في نطاق وجود فجوات كبيرة وهائلة بين من يملكون ويتحكمون وبين من لا يملكون.
إن التنمية هي جملة التعيّنات الواقعية للتوجهات الاقتصادية والقانونية التي تتخذها الحكومات، وتلك التعيّنات تكشف لنا مستوى إدراك الحكومات لمفهوم التنمية نفسه، وترشدنا إلى الحقول التي توظّف فيها العمليات التنموية، وتجيب عن أسئلة كثيرة حول الأسباب التي جعلت من حكومة ما تميل إلى التنمية في قطاع دون آخر، لكن كل ذلك ليس مفصولاً عن النظم السياسية القائمة، وعن مستوى التطور الاجتماعي- الاقتصادي في تحولاته التاريخية، وعن المشكلات البنيوية في إدارة الدولة، وعن علاقة الدولة بمواطنيها، والأهم من ذلك فإن العمليات التنموية تؤشر إلى طبيعة العقد الاجتماعي القائم.
لقد أنجزت أوروبا، منذ عصر التنوير، وإلى اليوم، تحوّلات مهمة في النظرة إلى المجتمع، واعتباره قابلاً للتغيير، والأهم من ذلك اعتباره العنصر الفعال في التاريخ، وتلك النظرة إلى المجتمع هي نظرة تنويرية بحد ذاتها، تقوم على أساس أنه يمكن لمجتمع ما أن يصل إلى أهدافه عبر تصوراتٍ وخططٍ عقلانية، تشارك في تنفيذها القوى المجتمعية، ما يجعل المجتمع نفسه، وليس النظام السياسي، هو القوة الأساسية في إحداث التقدم، ومن هنا فإن عمليات التنمية ليست أعطيات ممنوحة من قبل النظام السياسي للمجتمع، وإنما مساحة للعمل المشترك بين الفئات المجتمعية المختلفة.
في مختلف عمليات التنمية، هناك ثلاث قيم أساسية، هي الحرية، والنظام، والعدالة، ومن دون تلك القيم لا يوجد عمليات تنمية حقيقية، فالحرية شرط أساسي للنقاش حول المفاهيم والتصورات، وهي شرط أساسي ، واقعي وقانوني ، لوجود قوى قادرة على بلورة مصالحها، ومعرفة طرق وآليات خدمة تلك المصالح، كما أن الحرية شرط أساسي للتأثير في الرأي العام للاقتناع بالخطط التنموية التي ستمسّ واقع ومستقبل أفراده.
كما أن النظام، بوصفه بنى متعددة ، تشريعياً وقضائياً وتنفيذياً ، هو الحاضنة الأساسية لمشاريع التنمية، عبر سن القوانين، والسهر على تنفيذها، أما العدالة فهي المبتغى الكبير من عمليات التنمية، فشرعية أي خطط تنموية تكمن في قدرتها على تحقيق مستويات أعلى من العدالة الاجتماعية، التي تحفظ حريات وكرامات الأفراد، وتضمن لهم حياة أفضل.
وإذا ما نظرنا اليوم إلى معظم الدول العربية، فإننا سنجد كيف أن الدول الوطنية لم تتمكن، خلال العقود الماضية، من النهوض بأعبائها الاقتصادية والاجتماعية، بل إن مشكلاتها وأزماتها تضاعفت، ولم تعد قادرة، في بعض البلدان، على تأمين أبسط احتياجات المجتمع، من مثل الكهرباء، والماء، والغذاء، والسكن، وتضاعفت أرقام العاطلين عن العمل، خصوصاً فئة الشباب.
إن الصدام بين المجتمع والنظام السياسي هو نتيجة حتمية لعدم قدرة هذا النظام على تلبية متطلبات المجتمع، وعدم إفساحه المجال لقوى جديدة كي تنهض بأعباء التنمية، واعتماده على الأيديولوجيا في كثير من الأحيان في تبرير عجزه، مع أن هذا النمط من تبرير العجز والإخفاق لم يعد مقنعاً للشعوب، وقد أثبتت التجربة في غير مكان من العالم العربي بأن التمسّك بالتبريرات الأيديولوجية من قبيل المواجهة مع الخارج لم يمنع من دخول النظام السياسي في مواجهة مع المجتمع، وأن المجتمع لم يعد مقتنعاً بمقايضة غياب التنمية بحالة من الاستقرار الأمني الخادع، كما أن التنمية السياسية كفيلة بإيجاد قوى قادرة على الدفاع عن حاجات وحقوق مختلف الفئات المجتمعية، وممارسة الضغوط من أجل تحقيقها، وتعبئة الرأي العام في سبيل تبنيها، وجعلها أولوية من أولويات الخطط الحكومية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"