الجغرافيا السياسية للحروب المقبلة

03:42 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

أسهمت التطورات الجيوسياسية اللافتة التي عرفها العالم مؤخراً في دفع الكثير من الخبراء في المجال السياسي والعلاقات الدولية، إلى محاولة تقديم قراءتهم وتوقعاتهم المستقبلية بشأن خريطة المواجهات المحتملة بين القوى الكبرى من جهة وبين القوى الإقليمية فيما بينها وكل ما يتعلق بخططها الهادفة إلى مواجهة أجندات القوى العظمى من جهة أخرى؛ إذ يصعب بالنسبة للمراقبين الدوليين تصوّر بقاء البنية الفوقية للجغرافيا السياسية، الموروثة عن مرحلة الأحادية القطبية، سائدة في مرحلة تشهد فيها البنية التحتية لهذه الجغرافيا انقلابات كبرى نتيجة للنجاحات الهائلة التي حققتها القوى الناشئة على المستوى الاقتصادي، الأمر الذي يجعلها تصبو إلى تحقيق مزيد من التوسع الاقتصادي والانتشار السياسي على مستوى محيطها الجغرافي.
يذهب الباحث فليب فابري في إحدى مقالاته الأخيرة، إلى القول إننا نعيش بداية فجر جديد من الاضطرابات الكبرى على مستوى النظام الجيوسياسي الدولي، اضطرابات ستكون في مجملها حصيلة لتطورات بطيئة. ويؤكد في السياق نفسه على أنه من الصعوبة بمكان التنبؤ بمسرح الصراعات المقبلة وبالتحركات والمناورات المرتبطة بها، وعلى أنه ليست لدينا القدرة على توقع نتائج كل المواجهات بين مختلف الفاعلين الرئيسيين في المشهد الدولي. بيد أن تحليل المسارات التاريخية على مدى فترة زمنية طويلة والعمل على استقراء مختلف الأحداث، يسمحان لنا بتعديل زاوية النظر وبتحديد طبيعة التحولات المفاجئة التي سيشهدها العالم، وبالتالي استنتاج أن المواجهات الكبرى بين القوى الكبرى ستتمركز في 3 مناطق رئيسية هي أوروبا، جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط، وذلك من منطلق أن هذه المناطق تمثل فضاءً حيوياً بالغ الأهمية بالنسبة للقوى العظمى.
ومن ثمة، فإن هناك ما يشبه الإجماع لدى مختلف المحللين ولدى فابري، أن أوروبا ستظل كما كانت خلال الحربين الكونيتين السابقتين، المركز الأساس ونقطة المواجهة الأولى بين القوى الكبرى، وستكون هناك محاولات متعارضة من طرف حلف «الناتو» بقيادة الولايات المتحدة من جهة، وروسيا من جهة أخرى، من أجل فرض وقائع جديدة على مسرح المواجهة المباشرة بين الطرفين. وعليه فإنه وفي مواجهة إصرار «الناتو» على التمدد شرقاً نحو الدول التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي، هناك سعي روسي حثيث من أجل تطوير قدراتها العسكرية التي أضحت تحتل المرتبة الأولى في القارة العجوز، التي باتت في حاجة أكثر من أي وقت مضى، إلى مساعدة القوات الأمريكية التي تملك - دون غيرها- القدرة على ترجيح الكفة بشكل كبير، لصالح المعسكر الغربي.
وستحتل منطقة جنوب شرق آسيا المرتبة الثانية من حيث الأهمية الجيوسياسية للصراع من أجل الهيمنة وفرض النفوذ بالنسبة للقوى الكبرى، وبخاصة بين واشنطن والصين والهند؛ حيث تراهن الولايات المتحدة بشكل جزئي على الهند من أجل وقف الاندفاع الصيني الهادف إلى بسط سيطرة بكين على المنطقة، لا سيما في هذه المرحلة التي تشهد فيها القدرات الاقتصادية للهند تطورات كبيرة باتت تقلق بشكل متزايد القيادة الصينية. وتسعى واشنطن في السياق نفسه، إلى إحداث تغييرات إضافية في موازين القوى مع الصين، من أجل حرمانها من الاستفادة من عامل الوقت الذي يعمل لصالحها حتى الآن.
أما بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط، فإن الوضعية تبدو أكثر غموضاً وتعقيداً، لأن الصراع بداخل هذه المنطقة هو نتاج لصراعات دولية وإقليمية ذات أجندات مستقلة من جهة، وتابعة في بعض جوانبها لأجندات قوى كبرى من جهة أخرى، كما هو الشأن مع دول محورية مثل السعودية ومصر وتركيا ، فضلاً عن «إسرائيل» التي تمثل نقطة الارتكاز الأولى للغرب في المنطقة.
وتلعب المرحلة الثانية من انتشار الإسلام السياسي دوراً رئيسياً في معادلة الصراع بالمنطقة، فبعد المرحلة الأولى التي انطلقت سنة 1979 بعد سقوط الشاه، تمثل المرحلة الثانية التي بدأت سنة 2011 استكمالاً لدائرة الإسلام السياسي الذي أنهى دورته الكاملة عند نقطة وصوله. ويعتقد فابري أن تركيا ستلعب مستقبلاً الدور نفسه الذي كان يضطلع به الاتحاد السوفييتي، في دعم الحركات الشيوعية في العالم، حيث ستقوم تركيا بتوظيف جماعات الإسلام السياسي من أجل دعم نفوذها في العالم الإسلامي.
ويتوقع فابري في الأخير، أن الحروب المقبلة ستبدأ مع نشوب مناوشات صغيرة بين القوى الكبرى من أجل الدفع نحو تغيير سريع في موازين القوى، لكن هذه المناوشات قد تتحوّل بسرعة إلى حروب شاملة غير محسوبة العواقب، لكن نتائجها ستكون في كل الأحوال في صالح الولايات المتحدة وحلفائها، ومن ثمة فإن الانتقال التدريجي الذي يحدث الآن في مركز الثقل العالمي من أوروبا نحو آسيا، يجعل المشهد الدولي أكثر تعقيداً، ولا يتيح لنا بالتالي تقديم قراءة جديدة لواقع العلاقات الدولية ولطبيعة الحروب والصراع المقبلة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"