الحبرُ المُرّ

23:50 مساء
قراءة 3 دقائق
ليس للثقافة عضلات تظهر للملأ، كما هي الحال بالنسبة لملاكم أو مصارع، لهذا فهي لا تفوح رائحتها إلا إذا جرحت كالليمونة أو التفاحة، ومن تصوروا أن سيزيف الذي حمل الصخرة صاعداً وهابطاً في دورة أبدية عقيمة، أخطأوا، لأن الصخرة تصبح خفيفة بعد كل ذلك الصعود. وهكذا يصبح سيزيف أقوى وأرشق وأكثر قدرة على الاحتمال.ولأن الثقافة بلا عضلات، فإن عبارة اللحم المرّ لا تليق بها، وبالممانعة الباسلة والملقحة للوعي الذي تتسلح به في مواجهة التضليل والعسف وشهادة الزور. لهذا فإن الحبر قد يكون حائل اللون أو أبيض أو عديم اللون كالماء، لكنه قد يكون مرّاً، يفتضح ويشهد ويفرز الحفيف عن الفحيح، ولولا هذا الحبر المُرّ والذي ينافس الدم في نبضه وخلايا المناعة فيه لما كان التاريخ هو التاريخ. ولما تلاشت إمبراطوريات وديناصورات لمصلحة كائنات عزلاء إلا من الحبّ والنور والتبشير بالحياة ضد النعيق الذي ينذر بنهايتها.بالأمس قرأت عبارة لمثقف من أمريكا اللاتينية يقول إننا نكتب لنكسب محبة الناس، لكنه أشاح عن هؤلاء الذين نكسب كراهيتهم بالكتابة، لأنهم أقل عدداً مما تبقى من الثعابين في العمارات الحديثة في المدن. ويبدو أنه لا خيار لنا في طعم الحبر الذي نكتب به، فحين يكون بطعم الكوسا مثلاً لا يصل إلى المرسل إليه، حتى لو تأبط زجاجات منه سعاة البريد في القارات الخمس.إن من حق المثقف الذي يقبض على جمرة استقلاله وحريته أن يدعي بأن حبره مرّ كما يدعي بعض الناس ممن يزهون بحريتهم وكرامتهم ان لحمهم مرّ، لكن هناك مرارة أعذب من الشهد، كما أن هناك حلاوة أمر من العلقم، أما الحموضة ومشتقاتها فلها شجن آخر.ثلاث عبارات فقط من بين أطنان الورق التي تئن تحتها الرفوف تستحق أن ينقشها المهاجر على حقيبته، والسجين على جدار زنزانته والأب المقاوم على قبر أبيه أو على مهد طفله الوحيد.الأولى، هي أن الإنسان يمكن تدميره لكنه لا يهزم إذا قرر الانتصار، وقد قالها ارنست هيمنجواي عن الصياد العجوز في رواية العجوز والبحر.والثانية، هي أن المثقف يحمل في صدره شمساً لا تقهر ولا تغيب إذا عمّ الصقيع هذا الكوكب، وحدث الزحف الجليدي الذي يأتي منه الطوفان، وقد قالها ألبير كامي عندما فاز بجائزة نوبل، ولم ينس أن يعاتب مانحيه الجائزة على شقاء طفولته وعذابات أمه.والثالثة هي الأصابع المبدعة النحيلة التي لا تقوى على مقاومة مخرز أو حتى عصا قد تأسر الكون كله في مربع صغير من الورق، وقد قالها الصيني الحكيم لوتشي الذي أصغى في لحظات احتضاره إلى حفيف أكفان الموتى وهم عائدون إلى مهودهم.نحتاج أحياناً إلى شحنة من الرجاء، أو إلى كلمة تشبه الرافعة كي نذود عن إرادتنا وحقنا في الوجود، فالحيوانات الأشد قسوة وضراوة والتي ورثت شهوة الدم عن أسلافها، انتهت إلى فراء على أكتاف النساء وإلى محافظ وأحذية، لكن العصافير لاتزال تعقد مؤتمراتها الصباحية على أغصان الشجر في المدارس والمعابد وحتى السجون.وكم نحتاج إلى أن نتذكر بأن أعظم الرجال والنساء في التاريخ البشري كانوا بكليتين فقط وساقين فقط وفم واحد وعشرين إصبعاً فقط.. فالإنسان قليل إذا استسلم وكثير ككوكب مأهول إذا قاوم.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"