الحملة على فنزويلا.. أداء هزيل

02:41 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

للسياسة في أمريكا اللاتينية مذاق مختلف عن مذاقها في إفريقيا، أو في آسيا، وكذلك الكتابة عن السياسة في أمريكا اللاتينية، وربما الكتابة عن كل شيء آخر فيها. وقعت تطورات عديدة في مواقع متفرقة من القارة، ولكن لم يكن لأحدها أن يترك الأثر الذي يمكن أن يُحدثه تطور الأحداث الراهنة في فنزويلا.
معنى كلامي أنني أتوقع تدهوراً في الموقف بشكل عام. دفعتني إلى تكوين هذا الرأي ولا أقول اعتناقه أو بالأحرى التمسك به عناصر الصورة التي تشكلت عندي عن شبكة علاقات القوة الراهنة في واشنطن. دفعني أيضاً إدراكي المتزايد لأهمية وخطورة صعود قوى يمين جديد في كثير من أنحاء القارة، بينما تزداد سرعة انحدار اليسار المنظم في كل مكان.
تذكرني أحوال واشنطن وخاصة في مجال صنع السياسة الخارجية بما قرأت عن مرحلة وصول دوايت أيزنهاور، إلى منصب الرئاسة. جاء إيزنهاور إلى الرئاسة عن غير طريق الحزب الجمهوري؛ بل من خارج الطبقة السياسية الحاكمة برمتها.
عرف أنه سيلاقي صعوبات في توجيه دفة السياسة الخارجية، خاصة أنه لم يكن وهو في منصبه العسكري كقائد للحلف الأطلسي راضياً تماماً عن بعض سياسات الرئيس هاري ترومان، وخاصة دخوله الحرب الكورية، إلا أنه وخشية اتهامه بقلة الخبرة، ما إن تولى الرئاسة حتى شكل ثلاثة فرق من المخططين والدبلوماسيين، أحدها يضم جورج كينان وظيفته وقف تدهور مكانة أمريكا في الحلف الغربي، والتعامل مع القوى الجديدة الصاعدة في عالم السياسة الدولية، مثل الدول حديثة الاستقلال. والفريق الثاني يهتم بدعم القوة النووية الأمريكية كرادع قوي للتوسع السوفييتي. أما الفريق الثالث فوظيفته التخطيط لإسقاط حكومات دول خاضعة لروسيا، والعمل على تغيير نظام الحكم في الصين، والضغط على حلفاء أمريكا للمساهمة في تكاليف الحلف الغربي. وتعمل الفرق الثلاثة مجتمعة بصفة يومية، على تقديم المشورة لرئيس الدولة.
تدل المواقف والسياسات الأمريكية المتخذة في الآونة الأخيرة ضد فنزويلا، على أن الرئيس ترامب لم يهتم بالمسألة الفنزويلية قدر اهتمامه بقضايا أخرى، مثل «بريكست» ومؤتمرات المناخ، وانتخابات فرنسا الرئاسية، ودعم مرشحي التيار الشعبوي في دول أوروبا.
فجأة وجدنا إدارة الرئيس ترامب تتخذ مواقف تجاه حكومة مادورو في كراكاس. بدت هذه المواقف والسياسات الناجمة عنها كما لو أنه لا علاقة للرئيس ترامب بها.
إذا لم يكن الرئيس ترامب وراء قرار التدخل في فنزويلا، وأن تكون فنزويلا قضية في السياسة الخارجية الأمريكية، فمن كان؟ المرشحون كثيرون. منهم أفراد ومنهم مؤسسات، ومنهم مذاهب دينية؛ وأخص بالذكر، جون بولتون.
أذكر أنه يوم عين طلبت من أصدقاء في عديد الدبلوماسيات العربية: احتاطوا يا شباب فجون بولتون استلم حافظة الأمن القومي في البيت الأبيض.
هو العضو الأشد وحشية في مجموعة ارتكبت أشنع جريمة حرب حين خططت لشن حرب لتدمير العراق، ونفذت الخطة وأذلت العراق.
المجموعة لم تجد من يحاكمها دولياً؛ لأن الرجال الذين توالوا على حكم بغداد يرفضون فتح ملف جرائم الحرب التي ارتكبها الجيش الأمريكي وأجهزة المخابرات، والمرتزقة في العراق. جون بولتون متهم بالعنصرية وكره العرب والفلسطينيين خاصة، والمسلمين والسود على وجه العموم، والمهاجرين من أمريكا اللاتينية.
كان هو الذي ألمح قبل يومين، إلى أن الجيش الكولومبي قد يتدخل في فنزويلا لدعم الرئيس الذي عينته الولايات المتحدة.
كان هناك أيضاً مايك بنس، وإليوت ابرامز، ومارك روبيو. قام بنس وهو نائب للرئيس، بدور رئيسي في إطلاق الحملة ضد فنزويلا. ولا يحتاج المراقب من الخارج إلى تفكير طويل ليقر بأن وراء الحملة مصالح مذهبية تتعلق بنشر المذهب البروتستانتي في قارة أمريكا اللاتينية. نائب الرئيس مستعد للذهاب إلى مدى بعيد جداً، ليضمن استمرار ولاء الجماعة الإنجيلية للرئيس ترامب.
القارة منقسمة والعالم الخارجي أيضاً. بوليفيا والمكسيك وأوروجواي وكوبا أي رموز اليسار في أمريكا اللاتينية تقف ضد الحملة، وإنْ عبّرت في مناسبات سابقة عن اعتراضها على أسلوب الرئيس مادورو في إدارة الحكم والاقتصاد. ومع ذلك، لا أحد ينكر أن الحصار الاقتصادي الذي فرضته أمريكا على فنزويلا، سابق بكثير على الأزمة الحالية.
كان معلوماً وما يزال أن الدعم الفنزويلي لكوبا وبوليفيا، شجع تيارات يسارية على الصمود في وجه الهجمة اليمينية على القارة.
في الخارج وقفت دول عديدة في الاتحاد الأوروبي تؤيد الموقف الأمريكي، بينما وقفت الصين وروسيا وتركيا وإيران، مع مادورو. هذا الانقسام في المواقف الدولية إضافة إلى الانقسام داخل أمريكا اللاتينية، يمكن أن يزيد الأمر تعقيداً إذا ما قررت الولايات المتحدة دفع قوات من المرتزقة أو من كولومبيا، والبرازيل، للتدخل لحماية الرئيس الجديد.
مرة أخرى في عهد ترامب ينكشف ضعف الولايات المتحدة. مرة أخرى نسأل: إلى متى يتحمل النظام الدولي تكلفة حال الارتباك الذي يهيمن على البيت الأبيض وعلى الأداء الأمريكي بصفة عامة في حقل السياسة الخارجية؟.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"