الخطوة الأولى مراجعة التاريخ

04:48 صباحا
قراءة 3 دقائق

لا يقرأ الإنسان التاريخ العربي إبان الحقبة الإسلامية إلا ويشعر بما شعر به المؤرخ الراحل شاكر مصطفى من الحاجة لقراءة جديدة لذلك التاريخ، وذلك بعيون جديدة وبمنظور علمي جديد . وتزداد أهمية تلك المراجعة الجديدة سبب الارتباط الوثيق بين الكتابة التاريخية التي تمت في القرون الثمانية الهجرية الأولى، وبين تدوين الحديث النبوي وبناء علوم الفقه والتفسير القرآني . ومع أن ابن خلدون حاول فك ذلك الارتباط بين المعرفة التاريخية وتلك الحقول الإسلامية، ودعا إلى استقلالية مواضيع وأساليب علم التاريخ عن بقية العلوم الشرعية الأخرى إلا أن تلك المحاولة لم تتجذر في الأرض العربية وبقي ذلك الخلط عند البعض إلى يومنا هذا .

ما يهمنا هنا ليس التاريخ بذاته، فهذا موضوع له فرسانه والذين كتبوا عن ضرورة مراجعته كثيرون . ما يهمنا هو أن الكتابة التاريخية في القرون الهجرية الأولى استعملت كإحدى أدوات ضبط تدوين الأحاديث النبوية، من مثل الإسناد والعنعنة لما اعتبرت أحاديث صحيحة وحسنة، أو من مثل الجرح والتعديل لما اختلف بشأنها، أو استعملت كإحدى أدوات بناء مفاهيم فقهية من مثل معنى وشروط ومحددات الإجماع . غربلة وتنقية تلك الأداة ستساعد حتماً على غربلة وتنقية الحقول التي اعتمدت عليها، حقول تدوين الحديث وبناء علوم الفقه . وهذا الموضوع الأخير أصبح في غاية الأهمية في أيامنا التي نعيش، أيام الانقسامات المذهبية، المحالة دوماً إلى الأحاديث النبوية وأقوال الفقهاء، والشديدة التطرف التي تدفع بالجميع نحو الجنون الطائفي، ذلك الجنون المنغمس بدوره في الصراعات السياسية على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية .

اذن، فإن مراجعة الكتابة التاريخية في العصور الإسلامية وكشف ما لامسها من أخبار تلفيقية، أو من تبريرات لأحداث سياسية، أو من اعتماد على أسماء وشخصيات مشكوك في وجودها أو نزاهتها سيظهر الآثار السلبية التي أسهمت في تشويه الثقافة الفقهية وجعلها أداة هي الأخرى من أدوات الصراعات السياسية والدنيوية .

ليس الهدف على الإطلاق من هذه المراجعات الدخول في المماحكات الفقهية وتجريح هذا النقل أو ذاك الاستنباط أو ذاك الاستحسان، ذلك لأنه من المؤكد أن كثيراً من علماء الحديث والفقه كانوا من المدافعين عن الإسلام والمجتهدين في سبيل رفعته . إنما الهدف هو إخراج حقلي تدوين الحديث والفقه من سوء الاستعمال وبلادة الفهم والقداسات المصطنعة التي يعيشانها في أيامنا الحالية . إن الحقلين يعيشان في محنة تعكس نفسها كفوضى فكرية وعقيدية في أذهان وقلوب الملايين من المسلمين . ولما كانت حقول السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة في بلاد العرب قد التصقت إلى حدود كبيرة بحقل الدين على المستويين الرسمي والمجتمعي، فإن تلك الفوضى لها انعكاسات على الحياة العربية كلها حاضراً ومستقبلاً .

لنتذكر أنه في الماضي، وقبل استقلال الدول العربية الحالية، كان الوضع السياسي والمجتمعي لا يسمح بأن تتم غربلة التاريخ أو غربلة الحقل الفقهي . اليوم تغير الوضع إلى حد ما، على الأقل في بعض بلدان العرب، وأصبح بالإمكان، خصوصاً في حقل التاريخ، إن يوجد المؤرخ مسافة بينه وبين موضوعه فيمارس التحليل والنقد والغربلة بحرية أكبر، وفي عصرنا الحديث لا نقصد الاعتماد على المؤرخ الفرد وإنما بفِرق مراكز البحوث في داخل الجامعات وخارجها .

إن هذه الجهود ستفيد في مستويين، المستوى الأول يتعلق بحسم نقاط خلافية في حقل التاريخ نفسه، وهي تتلخص في ما يشير إليه المفكر المؤرخ وجيه كوثراني بقوله: وهكذا ترتسم في كتابات من تصدى للمسألة التاريخية في التراث العربي الإسلامي ثنائية في الموقف تراوح بين رؤية لا ترى فكراً تاريخياً (عند العرب)، وبين رؤية تصر على أن الجزء الذي تتمثله من اتجاهات علوم الحضارة الإسلامية عبر استمرارية التقليد هو التاريخ الكلي .

المستوى الثاني هو ما ستؤدي إليه تلك المراجعة للحقل التاريخي من مساهمة في مراجعة جدية ورصينة لحقلي تدوين الأحاديث والفقه الإسلامي، وفي جميع الأحوال، فإن تلك المراجعة التاريخية ستكون لها تأثيراتها الكبيرة في مجمل الحياة السياسية العربية . يكفي أن تلقي تلك المراجعة الضوء على موضوع الشرعية السياسية في الإسلام، المختلف حولها كثيراً والمستعملة بانتهازية من قبل البعض، حتى تسهم بصورة عميقة في الحياة السياسية العربية أيضاً .

مراجعة الكتابة التاريخية العربية الإسلامية هي خطوة أولى في سلسلة مراجعات كثيرة أخرى .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"