الدستور نص وروح

04:43 صباحا
قراءة 4 دقائق

إذا كان الدستور هو الوثيقة العليا للدولة، وهو الذي يحدد طبيعة نظام الحكم والعلاقة بين السلطات ودور الفرد في المجتمع وواجباته تجاه الدولة والتزامات الأخيرة نحوه ورعايته وصيانة حقوقه وضمان حرياته، فإن الدستور هو أيضاً الضامن الرئيس للاستقرار وتوكيد سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان إلى جانب تحديد بوصلة الحياة السياسية والنشاط الاقتصادي وصيانة الملكية، وكفالة حقوق التفكير والتعبير والإبداع، وإذا كانت لجنة الخمسين قطعت شوطًا لا بأس به على طريق إعداد دستور جيد للبلاد، إلا أننا نظن أن الدستور محكوم في النهاية بالمناخ الذي يوضع فيه والبيئة الفكرية والسياسية لتطبيق بنوده واحترام نصوصه، لذلك فإننا نورد الملاحظات التالية:

* أولاً: إن مشروع الدستور الحالي يجري إعداده في ظرفٍ استثنائي تمر به الدولة المصرية في أعقاب ثورتين أطاحت الأولى نظاماً وطنياً، ولكنه كان يحمي الفساد ويعتمد الاستبداد أسلوباً في الإدارة والحكم، بينما أطاحت الثانية نظاماً يفتقد الحس الوطني ويقصر مزاياه على فصيلٍ واحد ولا يكترث كثيراً بقيمة الدولة المصرية داخلياً، وقامتها خارجياً، فضلاً عن مسحة استبداد أيضاً كانت بوادرها تلوح في الأفق، ولست أشك في أن إعداد دستور مصري دائم في هذه الظروف هو مغامرة محسوبة وشر لا بد منه، إذ إن واضعي الدستور الجديد أو حتى المعدل ما زالوا يعيشون أصداء التجربة ويعبرون عن مواقف آنية وظروفٍ مرحلية، فمعاصرة الحدث تنعكس بالضرورة على كتابة النص الدستوري والأجواء التي تدور فيها المناقشات والمداولات، سواء في أولويات البنود أو أسلوب صياغتها وهي مسألة دقيقة وحساسة وتحتاج إلى ضمير وطني يقظ ورؤية بعيدة المدى لمستقبل البلاد والعباد .

* ثانياً: إن الدستور هو الذي يحدد هوية الدولة التي يجب الإلحاح على وضوحها، خصوصاً بعد تلك الفترة الضبابية التي مرت بها مصر في العامين الماضيين، إذ إن العبث بهوية الدولة هو عدوان على تاريخها وحضارتها والبشر فيها، فهو يبدو كأنه محاولة لإنكار أهمية الزمان وطبيعة المكان ونوعية السكان، فالهوية المصرية تحديداً، هي الأقدم على الأرض لدولةٍ مستمرة مستقرة منذ بداية التاريخ المسجل نقوشاً على المعابد وتواجداً على الأرض لم ينل منها الغزاة ولم يغيرها الطغاة ولم يسقطها البغاة، وأنا أطالب معدّي الدستور بإلحاح بتأكيد هوية الدولة المصرية بتعبيرات واضحة وحادة في صدر الدستور على نحو يقطع الطريق على محاولات العبث بها أو النيل منها .

* ثالثاً: إن الأديان السماوية الثلاثة قد تجاورت على أرض مصر وتعانقت فيها، ففي مصر آلاف المساجد ومئات الكنائس، وفي القاهرة وحدها سبعة معابد يهودية، لأنها مصر التي خصّها القرآن في الذكر الحكيم وعبرت على أرضها رحلة العائلة المقدسة، وجاء ذكرها أيضاً في العهدين القديم والجديد وخاطب موسى الكليم ربه العظيم من فوق جبل سيناء، فأصبحت مصر مرعية من الرب مباركة من الأنبياء . ولا أجد غضاضة في المطالبة هنا برعاية أشقائنا في الوطن والدم الواحد وأعني بهم مسيحيي مصر وتأمين دور عبادتهم واحترام عقيدتهم لأن المساس بهم هو اجتراءٌ على تعاليم السماء، ونبي الإسلام العظيم قال (من آذى ذمياً فأنا خصيمه يوم القيامة)، والنص الكريم يقول صراحةً (ولتجدن أقربهم مودةً للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون) . إنني أطالبهم اقتداءً بالرسول الكريم قائلاً (استوصوا بقبط مصر خيراً)، وليكن في مشروع الدستور نص واضح يغلظ العقوبة على الجريمة الطائفية تحديداً .

* رابعاً: إن للجيوش في دساتير العالم كله مكانة متميزة باعتبارها رمز سيادة الدولة ودرع أمنها وأمانها، وحامية أرضها، وحارسة حدودها، فلا غضاضة على الإطلاق أن يعطيها مشروع الدستور الجديد درجة من الخصوصية، بحيث لا يكون فيها افتئاتٌ على الديمقراطية أو عدوان على الحياة المدنية أو انتقاصٌ من حقوق أفراد المجتمع وسواد الناس من الشعب المصري . ولنتذكر أن جيشنا تحديداً، هو جزء لا يتجزأ من الكيان المصري العريق، ويصعب التمييز بين ما هو مدني أو عسكري إلا بحكم الوظيفة وطبيعة الدور ونوعية المهمات الوطنية الملقاة على عاتق كل طرف، فالجيش المصري كان ولا يزال وسوف يبقى مدرسة في الوطنية، ودعماً للدولة العصرية منذ قيام الدولة الحديثة من مطلع القرن التاسع عشر حتى الآن .

* خامساً: أظن أن واضعي مشروع الدستور يدركون أن السواد الأعظم من المصريين من محدودي الدخل الذين يطالبون بالعدالة الاجتماعية حامية لهم وحافظة للحد الأدنى الذي يسمح لهم بالمعيشة في وطن يتفشى فيه الفقر ولا يبرحه الجهل وتنهشه الأمية، لذلك فإن دور لجنة الخمسين أساسيٌ بالدرجة الأولى لأنه ينوب عن الأمة المصرية في صياغة دستورها، ولن يتمكن المواطن البسيط من فهم كل بنوده إذا قرأها أو معرفة المغزى من كل منها، فالدساتير تبدو أحياناً معقدة النص غامضة الأسلوب، لذلك فإنني ألتمس من واضعيه الاهتمام بدقة الصياغة والبعد عن العبارات الفضفاضة والشعارات التي لا معنى لها . فالدولة الحديثة تحتاج في دساتيرها إلى نصوص محددة وأفكار واضحة وتعبيرات موجزة، كما أنني أهيب بالسادة واضعي مشروع الدستور أن يدركوا أن كثيراً من البنود التي احتواها دستور 2012 ليس مكانها على الإطلاق نصٌ دستوري فهي لا ترقى إليه ولكنها قد تقف عند حدود النصوص القانونية العادية أو حتى اللوائح المهنية! ولنرتفع بالنص الدستوري إلى قيمته العالية ومكانته الباقية من دون الغوص في التفاصيل أو اللجوء إلى ثرثرة لا مبرر لها .

إن أهمية الدستور أي دستور ليست في نصوصه فقط، ولكنها تتجاوز ذلك إلى روحه التي تقف خلف النص وتكمن في الأفكار والظروف التي دفعت إليه والملابسات التي أحاطت به، إذ لا يمكن انتزاع النص الدستوري من سياقه، بل يجب التعامل معه في إطار الظرف التاريخي الذي نشأ فيه، فالدساتير في النهاية نصٌ وروح . . فكرٌ وممارسة . . عقلٌ وقلب في آن، بل إنني أزعم أن الدستور وثيقة عقلانية وعاطفية في ذات الوقت .

@DrMostafaElFeky تويتر

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"