الدور العربي للعراق

04:24 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي

كلما قرأت خبراً عن تنامي علاقة العراق مع محيطه العربي شعرت بارتياح، قائلاً لنفسي، لقد عاد شعب الرافدين إلى أحضان أمته، والعود أحمد. هذه مقدمة عاطفية اعترف فيها بقيمة العراق عندي، وإن كنت لم أعمل فيه، ولكن زرته مرات عدة، وانتقلت بين قباب الكاظمية، ومآذن الأعظمية، في بغداد الرشيد، حيث يستأثر ذلك البلد العربي الكبير بتراث إسلامي ضخم، حتى إن الحضارة العربية في العصر العباسي هي نتاج لبلد المدرسة المستنصرية، وقصور الخلفاء على شاطئي دجلة، والفرات، فضلاً عن الإسهام الضخم لبلاد النهرين في ثقافات غرب آسيا، وديانات الشرق الأوسط. كما أنني أعترف بتعاطفي الشديد مع معاناة العراقيين عبر العقود الأربعة الماضية، من حكم مستبد، إلى حصار ظالم، إلى حرب دامية، إلى غزو أجنبي حاول أن يطمس ملامح عروبة العراق، وتاريخه الطويل، ولذلك أطرح هنا بعض الملاحظات:
* أولاً : إن العراق وريث حضارات عريقة قبل الإسلام لا تقف عند قوانين (حمورابي)، أو أبراج بابل، ولكنها تتجاوز ذلك إلى الديانات المتعددة التي عرفتها تلك البلاد موازية للديانات السماوية، تحت راية التوحيد، وما بحثنا عن عالم كبير، أو مفكر عظيم، أو شاعر مرموق إلا وقد خرج من العراق، أو مر بأرضه، فهو أرض المياه، والنفط، والخصوبة، فاسمه يعني أرض السواد المعروفة بوفرة الإنتاج، وسخاء الطبيعة، فالعراق الشاهد الكبير على الحضارة العربية الإسلامية، وهو البلد الذي شهد أمسيات الرشيد، وصعود البرامكة، وسقوطهم، وهو البلد الذي دخله الحجاج والياً من الأمويين وكاد المصلون في المسجد أن يلقوا الحصى في وجهه بعد أن جلس صامتاً لبرهة غير قصيرة، ثم تحدث عن الرؤوس التي أينعت وحان قطافها، كأنما يدلل بذلك على شدة بأس العراقيين، وصعوبة إخضاعهم.
* ثانياً: إن الحديث الذي برز في العقدين الأخيرين عن تقسيم العراق بين سنة وشيعة هو تصدير لأطروحات خبيثة صدّرها الغرب إلى ذلك البلد الذي لا يجادل أحد في عروبة شيعته، إذ إن انتماءهم المذهبي يسبق انتماء الإيرانيين بقرون عدة، كما أنني أزعم أن انتماء العراقي لوطنه - شيعياً كان أم سنياً - هو ولاء لا يحتاج إلى إثبات، وقد برهنت الحرب العراقية الإيرانية - وهي حرب غير مبررة أمقت الحديث عنها - قد أثبتت هي الأخرى أن العراقيين نسيج واحد»سنة وشيعة» في حروبهم ، فعروبة العراقي تسبق انتماءه المذهبي.
* ثالثاً: لقد كان خروج العراق من ميزان القوى العربية خطيئة استراتيجية كبرى أضرت بقضايا العرب، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، كما أن الجناح الشرقي للأمة العربية قد فقد درعه القوي، وتكالبت على المنطقة في المشرق العربي ودول الخليج قوى خارجية لعب الإرهاب فيها دوراً ملموساً، وكان العراق هدفاً أساسياً لكل القوى المناوئة للوجود العربي في المنطقة، ولا شك في أن «إسرائيل» التي كانت تخشى دائماً تنامي القوى العسكرية العراقية، وقاعدته الاقتصادية القوية، قد شعرت بارتياح كبير لما جرى للعراق في العقود الأخيرة والذي شاركت فيه بالتبريك والمساندة في كل الخطوات.
* رابعاً: لقد حارب العراق على جبهات كثيرة في السنوات الأخيرة، ولكن أخطرها كان في نظري هو حرب تحرير الموصل من الوجود الإرهابي الذي مثله احتلال تنظيم «داعش» لتلك المدينة التاريخية المهمة في شمال العراق، وقد كان انتصار العراقيين على الإرهاب نجاحاً باهراً، لا يقل عن انتصارهم في حروب سابقة، فالعراق شعب الصمود، والعناد، والقدرة على تحمل المصاعب، ومواجهة التحديات، وأحسب أن طرد تنظيم «داعش» من العراق كان هو الانتصار الحقيقي للمنطقة على قوى الإرهاب الغاشم الذي مثله ذلك التنظيم الغامض في نشأته، وتسليحه، ودعمه، وتوفير كل اللوجستيات له، ولست أشك في أن دولاً أخرى في المنطقة كانت ضالعة في دعم تلك الموجة الإرهابية التي قادها ذلك التنظيم.
* خامساً: إن التواصل الأخير بين العراق وجيرانه - في الأردن ومصر والسعودية، وغيرها من دول الخليج العربي - هو مؤشر إيجابي يعيد قدراً من التوازن في المنطقة، ويحول دون العبث بعروبة ذلك القطر العربي الشقيق، وذلك أمر لا ينتقص من قيمة أكراد العراق، وهم جزء من تكوينه، كما أنه لا يتعارض مع الانتماءات المذهبية تحت مظلة العراق الواحد الذي يؤثر تأثيراً كبيراً في محيطه العربي، وفضائه الدولي، فضلًا عن التعاون الاقتصادي والتنسيق في المجالات المختلفة من دون تدخل في شؤونه الداخلية، وخصوصية وضعه. ونحن لا ننكر أن الضغوط الأجنبية، والتدخلات الخارجية تستهدف العراق عبر تاريخه الطويل، شأن دول أخرى في المنطقة، ولكن ذلك لا يدعونا أبداً للتفريط في مكانة ذلك البلد العربي، أو الإقلال من عروبته، وأظن أن دولاً عربية كثيرة تتطلع إلى دور العراق العربي بالاهتمام الزائد، والحفاوة البالغة.
إننا في مصر ننظر إلى العراق نظرة احترام تاريخية، يشاركنا فيها الأشقاء الذين يدركون قيمة التاريخ الحضاري والتوزيع الجغرافي لدولة أثرت في تاريخ المنطقة عبر العصور.. تحية للعراق بتعدد طوائفه، وانسجام أطرافه، وتماسك شعبه، ووحدة أراضيه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"