الدولة الأمريكية العميقة

02:53 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبدالخالق
يستخدم أهل الطب تعبير أمراض المناطق الحارة، وأحياناً أمراض الفقراء، للإشارة إلى الأوبئة المتوطنة في دول العالم الثالث، مثل الكوليرا والملاريا، والمشاكل الناجمة عن سوء التغذية، وتدهور الوعي الصحي، وكلها لا تصيب البلدان الغنية. في السياسة أيضاً يظل أغنياء الغرب والشمال أسعد حالاً فلا تتفشى في بلدانهم أوبئة الجنوب المزمنة كالفساد وانعدام الشفافية وغياب القانون. وحتى لو أصابهم بعض منها، فلديهم القدرة على معالجتها سريعاً.
لذلك يبدو غريباً أن يتردد في واشنطن الحديث عن «دولة عميقة»، يؤكد أنصار الرئيس ترامب وجودها وتآمرها عليه لإفشاله وتمزيق إدارته. هذا المصطلح لا يوجد سابق معرفة للأمريكيين به، وليس من مفردات قاموسهم السياسي التقليدي، وهو يرتبط أساساً بالدول غير الديمقراطية. ويرجح المختصون أن هذا التعبير ظهر للمرة الأولى في تركيا خلال تسعينات القرن الماضي. وهو يشير إلى شبكة مترابطة من السياسيين والعسكريين والبيروقراطيين الحكوميين ورجال الشرطة والمخابرات يتعاونون سراً لإدارة الدولة وتوجيه سياستها من دون إذن الحكومة القائمة.
وفي حالة الولايات المتحدة يعتقد أنصار ترامب أن المخابرات والأجهزة البيروقراطية مملوءة بمسؤولين متعاطفين مع الإدارة الديمقراطية السابقة. وأنهم يرفضون توجهات الرئيس الجديد، ومن ثمّ يتآمرون عليه. ويسود اعتقاد على نطاق واسع أن ستيف بانون كبير المستشارين الاستراتيجيين لترامب، وهو سياسي يميني متشدد، هو المروج الأكبر لفكرة الدولة العميقة والمؤامرات السرية ضد الرئيس.
ولا يمل الموقع الإخباري (بريتبارت) الذي كان يديره بانون من الحديث عن انقلاب صامت أو تدريجي، وعن حكومة ظل مناهضة للرئيس، وعن ضلوع الرئيس السابق أوباما شخصياً في تلك المؤامرات.
ترامب نفسه صاحب تاريخ طويل من الحديث عن المؤامرات التي تُحاك ضده شخصياً أو ضد الولايات المتحدة كلها. وكان أكثر المتحمسين للترويج لشائعة تزوير شهادة ميلاد أوباما والادعاء بأنه مسلم متنكر. وخلال حملته الانتخابية، وحتى بعد فوزه أطلق سهام اتهاماته غير المدعمة بأدلة في وجه كل من خالفه أو نافسه أو قدم رؤية مغايرة لقناعاته الشخصية. وهكذا من وجهة نظره أصبح الإعلام بوقاً لبث الأكاذيب. وتحولت المخابرات إلى أداة للتسريبات المحرجة له. وبات أوباما متهماً بالتجسس عليه. بينما حظيت منافسته السابقة هيلاري كلينتون، بتهمة أكبر هي قتل المساعد الرئاسي السابق، فينيس فوستر، عام 1993، ولاحق بالتهمة نفسها، والد منافسه الجمهوري السابق، تيد كروز، الذي يرى أنه متورط في اغتيال الرئيس كيندي. أما الليبراليون فقد حملهم مسؤولية موت قاضي المحكمة العليا، أنتونين سكاليا.
قائمة اتهامات ترامب طويلة، ولا تعكس فقط إيمانه الراسخ بنظرية المؤامرة وبراعته في توظيفها لشيطنة خصومة واغتيالهم معنوياً، ولكنها تشي أيضاً بنظرته الذاتية جداً للحقيقة أو ما يعتبره حقيقة، بصرف النظر عن مخالفته للواقع كما يراه الآخرون.
بعيداً عن التجاذب بين الخصوم السياسيين؛ يرفض الصحفيون المحايدون فكرة وجود حكومة ظل أو مخطط تآمري ضد ترامب. ولكنهم لا ينفون وجود من يحاول عرقلة عمله، لاسيما من خلال التسريبات المحرجة له.
ويحدد ستيفن كوك، المحلل الشهير في مجلة «فورين بوليسي» هؤلاء بأنهم عاملون في الكونغرس ووزارات الدفاع والخارجية والعدل وأجهزة المخابرات، وربما البيت الأبيض نفسه. ويعتقد أنهم يفعلون ذلك لأنه ليس أمامهم سبيل أخرى للتعامل مع إدارة تثير قلقهم بسبب روابطها الغامضة مع روسيا، وما يُثار من شبهة تعارض مصالح بالنسبة لعدد من مساعدي ووزراء ترامب بل هو نفسه. وفوق كل ذلك بسبب ما تتبناه الإدارة من أفكار شديدة اليمينية والتطرف، وحتى الفاشية، ما يمثل تهديداً للقيم الديمقراطية التي قامت على أساسها وازدهرت بفضلها التجربة الأمريكية.
ومن وجهة نظر نيكول هيمر، الأستاذة في جامعة فيرجينيا، فإن هذا التهديد للديمقراطية هو الخطر الحقيقي الذي تواجهه الولايات المتحدة. أمّا الأكثر خطورة فهو أن مصدره البيت الأبيض، وليس دولة عميقة لا وجود لها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"