الدولة الفاشلة

02:23 صباحا
قراءة 3 دقائق
ثمة معايير محددة للدولة الفاشلة، وتتضمن حقولاً عدة، مثل الاقتصاد والسياسة والأمن والمجتمع، لكن ما هو ثابت في تصنيف دولة ما على أنها فاشلة أن تكون الحكومة المركزية قد فقدت السيطرة على أراضيها، أو جزء منها، وأن تكون قد فقدت احتكار العنف، وأصبحت بعض معابر البلاد خارج سيطرتها. ومن الملاحظ خلال الأعوام الأخيرة أن دولتين من دول المشرق العربي (العراق، سوريا) أصبحتا ثابتتين على لائحة الدول الفاشلة، إضافة إلى ليبيا، واليمن، حيث تعاني هذه الدول حروباً داخلية بين مكوناتها، أفقدت حكوماتها ميزة احتكار العنف، وبسط السيطرة الأمنية على كامل الجغرافيا.
إن اعتقاد بعض الأنظمة السياسية بإمكانية إدامة حكمها من خلال التفرّد بالحكم، واحتكار العنف، والإمساك بالمقدرات المالية والمادية والإعلامية، قد أثبت فعلياً أنه مجرد وهم، ففي الأمثلة العربية التي ذكرناها آنفاً، تحوّلت تلك الدول التي حكمتها نخب عسكرية شديدة التمركز على مصالحها إلى دول فاشلة، حين عجزت عن فهم ديناميات التاريخ، والحاجة إلى الإصلاح، ووضعت نفسها وشعوبها أمام خيارات بالغة التعقيد، كما وضعت أوطانها أمام أسوأ السيناريوهات، وأبرزها سيناريو التقسيم.
وعلى الرغم من أن بعض محللي ما يسمى «الربيع العربي» ما زالوا يميلون -بفعل تبنيهم نظرية المؤامرة- إلى إعطاء العامل الخارجي أهمية أكبر من العوامل الداخلية، إلا أن العامل الخارجي، وهو عامل موجود دائماً، لا يمكن أن يفعل فعله، من دون وصول العوامل الداخلية إلى مرحلة الانفجار، خصوصاً مع تنكّر الأنظمة السياسية لأي إصلاح جدي للبنى الداخلية، واعتبارها أي مطالبة سياسية بالتغيير شكلاً من أشكال التآمر مع قوى الخارج، وهي التهمة التي زجّت بها تلك الأنظمة معارضيها في المعتقلات لسنوات طويلة، من دون أدنى اعتبار لتزايد عوامل النقمة الداخلية عند فئات شعبية واسعة.

إن الدول التي طالها ما يسمى «الربيع العربي» كانت من أشد المدافعين نظرياً عن مقولات قومية، مثل الوحدة العربية، والتضامن العربي، والمقاومة، والتقدّم، وإلى ما هنالك من شعارات، ومع ذلك فهي الآن تتعرض إلى مخاطر التقسيم التي أصبحت جدية، بفعل الاقتتال الداخلي بين المكونات الأهلية والسياسية، وهو ما يكشف بشكل فاضح أن تلك الأنظمة قد هربت فعلياً من مواجهة أزماتها الداخلية نحو شعارات براقة وكبيرة، وأن الهدف الفعلي لتبني تلك الشعارات كان المحافظة على السلطة السياسية، والنفوذ، والهيمنة على الثروات.
وقد أثبتت التجربة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، أن النظام السياسي السوري، الذي رفع على مدار عقود شعار «وحدة، حرية، اشتراكية»، وحارب في منطلقاته النظرية العشائرية والطائفية والمذهبية، قد فشل فعلياً وكلياً في تحقيق الحد الأدنى من أهدافه، فالمجتمع السوري، خلال السنوات الماضية، انقسم عمودياً وأفقياً، وظهرت إلى السطح كل الهويات التي تنتمي إلى ما قبل الدولة الوطنية، من عشائرية ومناطقية وطائفية ومذهبية وإثنية، والتي أصبحت عناصر أساسية ومغذية للصراع، كما أنه في مواجهاته مع القوى المسلحة اضطر للاستعانة بميليشيات طائفية من خارج الحدود.
لقد فشلت الكثير من الأنظمة السياسية العربية في بناء الدولة الوطنية الحديثة، ولم تتمكن، على الرغم من وجودها في الحكم لعقود، من تطوير البنى المجتمعية والاقتصادية، كما أنها لم تلحظ التغيّرات التي حدثت في مجتمعاتها، ولم تسعَ جدياً إلى ردم فجوات التفاوت الطبقي، التي توسّعت بشكل مخيف، بسبب التمركز الشديد للسلطة، كما أنها عجزت عن فهم المتغيّرات في النظام الدولي، ولم تقرأ بسبب تخلفها تحولات ثورتي التقانة والاتصالات، وما أفرزته من تحولات على الأجيال الشابّة.
لقد عرفت الدول الوطنية خلال القرن الماضي تطوراً مذهلاً في مسيرة تبني قيم المواطنة المتساوية، وقد مهّدت الديمقراطية إلى ذلك التطور، كما أدى فصل السلطات الثلاث (التشريعية والقضائية والتنفيذية) إلى بناء مستويات عالية من الرقابة والمساءلة، وعدم تفرّد السلطة التنفيذية بمقدرات صناعة القرار، وأفضى كل ذلك إلى جعل المسؤولية موزعة على مختلف الشرائح الاجتماعية، عبر ممثليها من نقابات وأحزاب ومنظمات مجتمع مدني.
إن التاريخ، ممثلاً بالنظام الدولي الراهن، يضع الدول على محك الالتزام بالتطور الذي شهدته الدولة الوطنية في مسيرتها نحو الديمقراطية والتزام قيم المواطنة، وبالتالي فإن خيارات الأنظمة السياسية في مقاومة هذا التغيّر تبدو غير ذات جدوى، ومن شأن مقاومتها للتحول نحو الديمقراطية والمواطنة أن يضعها أمام مآزق وطنية حادة، ستكشف عن هشاشتها في نهاية المطاف، ولن يكون أمامها سوى الانزلاق نحو نموذج الدولة الفاشلة، وفتح الباب أمام صراعات داخلية تتكفّل بها كل البنى الكامنة في عمق التاريخ، بأسوأ أشكالها ونسخها، من تطرف وعصبية، كما ستسمح للخارج بالقضاء على ما تبقى من إمكانات وطنية.
حسام ميرو
[email protected]
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"