الدولة وأزمة الهوية

04:42 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو
في أزمات العالم العربي، تحضر مشكلة الهوية، وتصبح هذه المشكلة أكثر تعقيداً حين لا تكون الدولة تعبيراً حقيقياً عن جملة التفاعلات التي تجري في السياقات الاجتماعية، فتصبح، أي الدولة، في خضوعها للنظام السياسي، بنية متعالية، ومغلقة، متجاهلة الأثر السلبي والتراكمي لكبت قضايا الهوية، وما يمكن أن ينجم عن ذلك الكبت من أزمات غير قابلة للمعالجة مع مرور الزمن، بل إن تلك الأزمات تتحوّل إلى قنابل موقوتة، بانتظار اندلاع الشرارة الأولى، حيث لا تعود الأدوات القديمة للدولة، ونظامها السياسي، قادرة على إغلاق مجرى الصدام المجتمعي.
وإذا كانت الهوية، من حيث التعريف، هي تطابق الشيء مع ذاته، فإن هذا التطابق ليس نهائياً، كما أن هذا التعريف هو مجرد مقاربة نظرية، بينما يتحرك التاريخ دوماً ليغيّر من حالة التطابق، ويجعل من الضروري بمكان إعادة تعريف الهوية، وفقاً للمتغيّرات الجديدة، والتي عادة ما تفرضها الوقائع، ولا تفلح الرغبات، أو النوايا، في إبقاء الهويات ثابتة إلى ما لا نهاية.
لقد حاول النظام السياسي العربي أن يُلبس الدولة والمجتمع، من أجل ديمومة وجوده في السلطة، هويات محددة، مسخّراً في ذلك كل أدواته الحزبية والإعلامية، وقد كانت مجمل تلك الهويات غير متطابقة مع الصيرورة التاريخية للمجتمع، ولا مع جملة التفاعلات الجارية في البنى الاقتصادية المختلفة، أو مع التباينات الإثنية والطائفية، كما كانت تلك الآلية التي اتبعتها مجمل النظم السياسية العربية بمثابة الهروب إلى الأمام، وفي حالات أخرى، محاولة لإغلاق مسارب التاريخ، وتحويل سكّته، وهو ما يتنافى مع طبيعة التاريخ نفسه، وما ينجم عن مساراته من استحقاقات.
ومثالاً على ذلك، فقد حاول نظاما البعث في العراق وسوريا أن يصبغا الدولة بطابع «قومي» توفيقي، بدعم من عدة إيديولوجية وإعلامية، بينما كانت البنية الأساسية للنظامين محكومة من قبل المنظومتين العسكرية والأمنية، وقد أصبحتا مع مرور الوقت منفصلتين عن المجتمع، ومرهونتين لمصالحهما، مع إغلاق جميع المنافذ أمام القوى السياسية والمجتمعية كي تعبّر عن مصالحها، وتطلعاتها، بل إن أي تحرك لتلك القوى كان يعدّ نوعاً من التآمر، ليس فقط على الدولة، والنظام السياسي، وإنما على هوية الدولة، و«قوميتها».
لقد بقيت الهويات الثانوية تتفاعل في العراق وسوريا، ولم تتمكن الدولتان من فرض الهوية المتعالية الافتراضية، خصوصاً مع الفشل الذريع في تحقيق التنمية، وحل قضايا الإثنيات، وخصوصاً القضية الكردية، في إطار وطني ديمقراطي، والدخول في مغامرات إقليمية خاسرة، والاستعاضة عن الدور الوطني الداخلي بدور وظيفي خارجي، وهو ما جعل العواصف التي ضربت الدولتين تكشف عن هشاشة الدولة من جهة، وهشاشة هويتها، وعدم الانسجام بين الهوية المتبناة إيديولوجياً والسلوك العملي للنظام السياسي.
ولا يحتاج المراقب إلى أوضاع العراق وسوريا إلى الكثير من النباهة لكي يكتشف تلك العودة الكاسحة للهويّات الكامنة في العمق التاريخي، والتي عادت لتتجلى بأشكال بالغة العنف، مستعيدة إرثها، بكل ما ينطوي عليه من رموز، وإشكالات، وإحالات، من دون أي أثر مهم للهوية الوطنية الجامعة، أو الهوية القومية، لنظامين استمرا في الحكم لعقود، مستندين إلى حزبين قوميين، ضمّا بينهما ملايين المنتسبين.
إن القفز إلى المستقبل، أو العودة إلى الماضي، ينمّان عن جهل بالتاريخ، وعن فقر في المخيلة السياسية لمعالجة أزمات الهوية، إذ لا يمكن تجاهل مشكلات الهويّات الاجتماعية والإثنية بالقفز من فوقها، كما أن العودة إلى الهويّات ما قبل القومية ليس من شأنه أن يقدّم حلولاً تنهض بالمشكلات والأزمات، فمن غير المتوقّع أن تؤدي حركة العنف الراهنة، والتي تعبر عن أزمة الدولتين العراقية والسورية، وعن أزمة الهويّات في البلدين، إلى أي مخرج قريب، بل إن هذا العنف نفسه أصبح مجالاً للاستثمار، خصوصاً من قبل الدول الإقليمية، أو دول أجنبية طامحة إلى لعب دور توسعي.
إن معالجة الدولة العربية، عموماً، لأزمات الهوية، ما زالت تتسم بالهروب من الاعتراف بوجود تلك الأزمات، ومحاولة إيجاد حلول التفافية، لا يمكن لها أن تلغي المشكلات المتراكمة لدى قوى اجتماعية تجد نفسها مهمّشة، ما يجعلها تلتصق بهويّاتها الفرعية، كنوع من الحماية لوجودها، كآلية دفاعية، كامنة، لكن تلك القوى المهمّشة يمكن أن تكون وقوداً لصراعات كبرى، وستجعل من هويّاتها الفرعية رأس حربة في مواجهة الهويّات التي تبنتها الدول وأنظمتها السياسية، إذ لا يمكن لمن لم يعرف المواطنة وقيمها، ولم يتمتع بمزاياها، أن يتحوّل، في لحظات الانفجار مدافعاً عنها، وإنما عن هويته الفرعية، والتي طالما اعتقد أنه مهمشٌ بسببها.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"