الرؤية والإرادة ومستقبل وطن

04:45 صباحا
قراءة 5 دقائق

عندما يجلس المصريون في مجالس اللغو والثرثرة ومسامر ليل الصيف حيث يحلو السهر، ويقتحم الحاضرون عالم السياسة الداخلية والخارجية، فسوف نجد أن كل المصريين تقريباً قادرون على تشخيص مشكلات الوطن وهموم الشعب ومعاناة الأمة، حتى يخيل إلى من يستمع إلى التحليلات العميقة والأفكار الجديدة مع القدرة الكاملة على توصيف الواقع وفهم أسبابه، فإنه يخيل للمرء أن ذلك الذي يتداولون فيه إنما يتصل بدولة أخرى أو عالم مختلف، وكأن هناك عاملاً مجهولاً يتحمل مسؤولية ما جرى ويجري، وربما يزيد الأمر على ذلك أيضاً، وكأن الكل لا يتحمل جزءاً من المسؤولية فهي ضائعة بين الجميع ومشاع بين الكل، وحقيقة الأمر أنه يمكن تناول هذه الظاهرة من زوايا مختلفة نتطرق إليها فيما يلي :

* أولاً : إن التناول المرحلي للمشكلات القائمة والتعامل الجزئي مع الأزمات العابرة هما أمران خطيران في مسيرة الوطن المصري فنحن لا نواجه القضايا بشكل حاسم، ولكننا نكتفي بالدوران حولها وأحياناً بالمرور عليها، وقد نستغرق في التفاصيل فتتوه منا أمهات المسائل ورؤوس الموضوعات، ثم ننصرف إلى الاستغراق في التفاصيل دون الفهم الكلي للمشكلة أو الرؤية العامة للموقف، وتلك في ظني واحدة من سلبيات مسيرتنا عبر تاريخنا الحديث، والأمر في ظني يقتضي أن نبدأ من الكل إلى الجزء ومن العام إلى الخاص وليس العكس إطلاقاً .

* ثانياً: إن الرؤية الشاملة والنظرة المتكاملة تضع أيدينا على موطن الداء، وتكشف لنا طرق العلاج قبل أن تنمو المشكلات وتتضخم الأزمات وتتفاقم درجة الاحتقان بغير مبرر، فما أكثر ما واجهناه في السنوات الأخيرة وكان حله في البداية يسيراً ولكن تجاهله جعله عسيراً، إنني ممن يظنون بصدق أن الاعتراف بالواقع والتعامل بشفافية معه هو أقصر الطرق للوصول إلى ما نبغيه ونتطلع نحوه، فقضية التعليم مثلاً لن يكون علاجها زيادة الأبنية التعليمية فقط أو التركيز على الكم دون الكيف، ولكنها تحتاج إلى رؤية عصرية حديثة تتناول جوهر العملية التعليمية ذاتها، وقس على ذلك الجانب الأكبر من نواحي حياتنا المعاصرة .

* ثالثاً: إن الرؤية تختلف عن الرأي لأنها تضع في محتواها عنصري الزمان والمكان، فضلاً عن فهم طبيعة البشر وثقافة المجتمع والقيم السائدة لدى الشعوب، لذلك فإنها تنطوي على تحليل جذري للأبعاد والآفاق والأعماق لكل قضية في إطار تأثيرها على غيرها وتفاعلها مع سواها، لذلك فإنني أشارك أولئك الذين يعتقدون أن الإصلاح هو قضية رؤية بالدرجة الأولى تليها مباشرة الإرادة المطلوبة من المسعى الذي نريده، كما أنه لا يخفى على أحد أن تجزئة الحلول هي جزء من المشكلة ذاتها، كما أنها تنطوي على إنكار واضح لحجم المعاناة ومخاطر المستقبل .

* رابعاً: إن عامل الإرادة هو المكمل على الجانب الآخر لعنصر الرؤية، وإذا توافر أحدهما دون الآخر ظل المجتمع عاجزاً عن إحداث التغيير قاصراً عن المضي في مسيرة الإصلاح، فإذا وجدت الرؤية وغابت الإرادة بدا المجتمع مكبلاً، وإذا توافرت الإرادة دون الرؤية بدا المجتمع متخبطاً، فالتلازم بين الرؤية والإرادة هو التعبير الجمعي والاتفاق المجتمعي للمضي في تحقيق الهدف وفقاً للرؤية المطروحة معتمدين على توافر الإرادة المطلوبة، ولا يتصور أحد منا أن الفصل بين الرؤية والإرادة أمر ممكن، فذلك شأن مستحيل لأن تلازمهما هو تعبير حقيقي عن قاطرة التقدم وقافلة الإصلاح التي تتحرك نحو طموحات الأمم وآمال الشعوب .

* خامساً: إن الإرادة السياسية هي بالضرورة قائدة الإرادات الأخرى، والمبشرة بعملية التغيير والقادرة على القيام بالنقلة النوعية نحو الغد الذي تريد أن تعيش فيه الأجيال القادمة، فعقل الأمة سياسي بالطبيعة، إذ إن الاقتصاد سياسة والتعليم سياسة، والثقافة سياسة، وقس على ذلك كافة مناحي الحياة وزوايا التحول . إن الإرادة السياسية هي الاستكمال الطبيعي للرؤية العلمية والعملية، ومن دون ذلك لن يتحقق للأوطان ما تريد، ولن يتشكل مستقبلها على النحو الذي تتطلع إليه .

* سادساً: إن قضيتي الرؤية والإرادة تستلزمان توافقاً شعبياً عاماً ورضاءً مجتمعياً شاملاً، بحيث يؤدي كل طرف دوره على النحو الذي تتحقق معه أحسن النتائج وأفضل العوائد، إنني أذكر الجميع هنا بحالة الازدواج المرضية التي تعاني منها معظم المجتمعات العربية التي تتحدث بما لا تفعل وتقوم بما لا تقول، فنجد أنفسنا أمام حالة من النفاق العام والكذب على الذات ومداراة العيوب وإغماض العيون عما يدور حولنا، وأنا أعترف هنا بأن تلك خصيصة مشتركة بين الدول المتخلّفة في عالمنا المعاصر، ولكنني أتطلع إلى يوم تسود فيه لدينا الرؤى العصرية الصحيحة دون مواربة أو التواء .

* سابعاً: لن أمل من تكرار حقيقة مؤكدة وهي أن التعليم العصري وفقاً للأساليب الحديثة هو الصانع الأول لمسألة الرؤية، ولا يتصور أحد أنه يستطيع في ظل نظام تعليمي لا يتناسب مع روح العصر أن يحقق من النتائج ما يتطلع إليه ويرجوه مهما كانت الأسباب والدوافع أو الظروف والملابسات، إنني أقول ذلك وأنا أدرك جيداً أن قضية التعليم هي مشكلة المشاكل وأم القضايا، ولقد حضرت مؤخراً اجتماعاً للجنة التعليم في مجلس الشعب المصري بحضور رئيس اللجنة ووزير التربية والتعليم الذي يحاول جاهداً اختراق المشكلات التي تحيط به وفي حضور الأب الروحي لنظام التعليم الحديث د . حامد عمار، وقد راعني أن الحديث كان يدور فقط حول صعوبة امتحانات الشهادة الثانوية العامة، كما لو أن ذلك هو مفتاح تطوير التعليم كله، وقد نسينا جميعاً في غمرة تعاطفنا مع أبنائنا وبناتنا أن الحصول على مائة في المائة هو موقف عبثي يستحق السخرية لأنه يتجاوز حدود الكمال البشري، بل إن بعض الطلاب والطالبات تتجاوز درجاتهم ذلك إلى نسب أعلى ومعدلات تفوق المائة بالمائة، بينما تعليمنا يحتاج إلى إصلاح حقيقي لن يؤثر فيه أبداً كر وفر بعض الطلاب بين صفحات الكتب لتحقيق معدلات قياسية في النتيجة النهائية، بينما عقلية الطالب لم تتغير وجدولة ذهنه لم تتحقق، ولم تكتمل له رؤية للحياة من حوله، فالتعليم الممتاز لا يرتبط إطلاقاً بمعدلات النتائج ولا بما يحققه بعض أبنائنا وبناتنا من معدلات قياسية، إن الأمر مرة أخرى يمس جوهر العملية التعليمية برمتها ولا يخرج عنها .

هذه ملاحظات طرحناها لكي نشير في موضوعية ووضوح إلى العلاقة بين عنصري الرؤية والإرادة في تحقيق الإصلاح والانتقال بالمجتمعات نحو غاياتها وتحقيق طموحاتها، وواهم من يتصور أن الاعتماد على أحد العنصرين وحده يمكن أن يحقق شيئاً إيجابياً ملموساً، فكما أن حياة البشر تمضي على قدمين فإن تحول المجتمعات يمضي هو الآخر على ركيزتين هما الرؤية وهي عملية علمية شاملة، والإرادة وهي ظاهرة سياسية مستمرة حتى يندفع المجتمع نحو أهدافه بدلاً من الغوص في الجزئيات الصغيرة والفرعيات التافهة، وضياع مسيرة الإصلاح الحقيقي في محاولات الترقيع المرحلية التي لا تفيد شيئاً ولا تقدم عائداً . وليتذكر الجميع أن مصر دولة عريقة ومجتمع نهري قديم له تقاليده وأعرافه وله رؤاه ومفاهيمه، ولا يمكن أن يتوه أبداً بينما لديه ذلك الرصيد البشري الهائل من العقول الواعية والأذهان اليقظة والأفكار المتألقة، ويجب أن يتذكر الجميع أن الأمم لا تغيب، وأن الشعوب لا تختفي، كما أن المجتمعات لا تنام، وإذا ظهرت العثرات فإن الرؤية تفتح الطريق للخروج منها كما تتكفل الإرادة بقهرها والانتصار عليها . . تلك هي رؤيتي أبسطها بإيجاز متطلعاً إلى الإرادة التي ورثناها عن بناة الأهرام وحافري قناة السويس ومشيدي السد العالي وغيرها من الإنجازات العملاقة في تراث هذا البلد العريق .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"