السودان: انفجار وشيك للأزمة الداخلية

05:08 صباحا
قراءة 4 دقائق

دخل السودان منذ الثلاثين من سبتمبر/أيلول الماضي منعطفاً جديداً وحادّاً وذلك بعد أقل من أسبوع على قرار رفع أسعار المحروقات بنسبة عالية (ستون في المئة)، ما أدى إلى اندلاع احتجاجات شعبية غير مسبوقة، تخللها سقوط العشرات من الضحايا واعتقال المئات وتقديم بعضهم للمحاكمة وبعض هؤلاء نساء وأطفال .

وبينما يزخر السودان بنحو عشرين حزباً معارضاً، من الواضح أن الهبّة الشعبية جاءت على قدر كبير من العفوية، وأنها فاجأت الحكم كما الأحزاب المعارضة التي سعت إلى التساوق مع هذه الهبّة، وبالذات حزب الصادق المهدي الأمة وحزب حسن الترابي المؤتمر الشعبي . فيما تواترت أنباء عن انسحاب الوزراء الأربعة للحزب الاتحادي الديمقراطي (عثمان الميرغني) من الحكومة، وكذلك من منصب مساعد رئيس الجمهورية الذي يتولاه جعفر نجل الميرغني .

سقوط ضحايا وشن اعتقالات واسعة فاقما من الأزمة وضاعفا من حالة الاحتقان الشعبي، وأسهما في تكريس عزلة النظام وحزبه المؤتمر الوطني، ومع ذلك لم يتقدم النظام بمبادرة أو خطوة إنقاذية جدية، محتكماً إلى سطوة القوة وترويع المحتجين وإدارة الظهر للقوى السياسية والاجتماعية الرئيسية، بما ينذر بتطورات دراماتيكية في مقبل الأيام مع هذا الانسداد السياسي . علماً بأن بعض قوى المعارضة لوّحت باستخدام العنف للرد على عنف النظام فيما التزمت غالبية هذه القوى بالمنحى السلمي للهبة الشعبية . وتلتقي القوى السياسية المختلفة على ضرورة الضغط على النظام وتفكيك بُنيته الاستبدادية وتشكيل حكومة قوية تتولاها المعارضة كحد أدنى لمطالبها، من أجل الخروج من الأزمة ومنح المستويات العليا من السلطة فرصة البقاء في الحكم . لكن النظام منشغل بالحديث عن التخريب والأجندات الخاصة والتدخلات الأجنبية، علماً بأن المحتجين لا قيادات سياسية أو حزبية منظورة لهم، باستئثناء التجمعات الشبابية والطلابية .

غير أن ما يثير التأمل أن هذه التطورات التي تشهدها العاصمة الخرطوم ومدن سودانية أخرى، وعلى أهميتها الكبرى ليست هي الحدث الوحيد الذي تعيشه البلاد، فالمعارضة المسلحة في دارفور لم تتوقف منذ سنوات، وقد أضيف إلى المشهد تمرد آخر في مناطق النيل الأبيض وكردفان على خلفية مطالب تنموية ومناطقية وعرقية، ولكأن البلاد التي فقدت شطرها الجنوبي مع قيام دولة جنوب السودان ، تشكو في ظل الحكم القائم من اختلالات بنيوية ومُركّبة بعد أن عجز النظام عن توحيد البلاد وعن اكتساب الشرعية، وعن إنتاج حياة سياسية طبيعية تكفل الاستقرار والتواصل بين الحكم وقطاعات المجتمع، مما ينتج أزمات متلاحقة لا يجد الحكم العسكري من علاج لها سوى ما دأب عليه العسكر من فرض السطوة العارية .

والآن ومع استهداف الرئاسة السودانية قضائياً من المحكمة الجنائية الدولية لدرجة المنع من زيارة نيويورك والمشاركة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإن الخشية هي ألا يجد النظام مع تمسكه بالمنظور الأمني المحض، من سبيل للبقاء سوى الانزلاق إلى قمع دموي سافر ومطرد للهبة الشعبية، من أجل البقاء في الحكم بأي ثمن . وللأسف الشديد فإن التدابير المتخذة والخطاب المعتمد، تدلل على أن الحكم يسير على هذا الطريق المسدود، بما يضاعف من معاناة السودانيين، ويُفقد بلدهم ما تبقى من وزنه الإقليمي ومنَعَته الاقتصادية، ويفاقم من وضع الدولة الفاشلة، وفي هذه الحالة فإن الوسطاء الإفريقيين والإقليميين الذين دأبوا على النظر في مشكلات هذا البلد والتوسط لحلّها، لن يجدوا ما يسعهم قوله أو فعله إزاء أزمة داخلية طاحنة، لا أدوار فيها للخارج بما في ذلك الجارة مصر في عهدها الحالي، التي لن تتحمس لتثبيت نموذج الإسلام السياسي الحاكم في الخرطوم منذ نحو ربع قرن .

ومع التوترات الأمنية في البلاد التي سبقت الإشارة اليها، ومع التواصل غير الخفي لبعض الأحزاب مع قيادات المعارضات المسلحة، ومع التمادي في قمع الهبة الشعبية، فإن الطابع السلمي لهذه الهبّة قد لا يصمد طويلاً رغم عزوف غالبية الأحزاب عن خيار اللجوء إلى العنف، وهو ما ينذر بانزلاق البلاد إلى موجة من العنف لا مثيل لها منذ انقلاب العام ،1989 علماً بأن العزلة السياسية الداخلية التي يعيشها الحكم، مع فشله المديد في بلورة ائتلافات سياسية عريضة وثابتة، تعززها عزلة النظام على المستوى الإقليمي والقاري والدولي، علاوة على العقوبات الدولية التي ينوء بها النظام ، مما يجعل المخارج مسدودة أمام النظام للجمع بين قمع الهبة الشعبية، والتمتع في الوقت نفسه بمنافذ مع الخارج أو تلقي أي دعم خارجي .

والمأمول وتفادياً للاندفاع نحو الأسوأ أن تضغط قوى وسطية مثل حزب الميرغني على أركان الحكم من أجل القبول بتشكيل حكومة قوية ذات غالبية من أحزاب المعارضة وذات صلاحيات واسعة لقيادة البلاد، والإفراج خلال ذلك عن المعتقلين، وتعويض المصابين وذوي الضحايا، وسوى ذلك فإن الحوار الدامي في الشوارع سيكون هو الفيصل، خاصة أن أغلبية الأحزاب دعت أعضاءها ومناصريها للنزول إلى الشارع والانضمام إلى المحتجين، في هبّة شعبية مفتوحة . وقد نجح النظام من جانبه بفضل قمعه الأعمى، بتحويل مجرد الاحتجاج على رفع أسعار المحروقات والرجوع عن هذا الرفع، إلى مطالبات علنية بتغيير النظام .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"