السيرة الذاتية

03:04 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.مصطفى الفقي

يحتل أدب السير مكاناً مرموقاً في تاريخ الآداب عموماً، ويجد إقبالاً كبيراً من القراء، ذلك لأنه يعطي إحساساً للقارئ بأنه يتابع رواية حقيقية وليست قصة خيالية، كما أنه قد يتفهم بعض المعاني فهماً خاصاً نتيجة معرفته بالكاتب، ولكن الذي شاع في السنوات الأخيرة، هو كتابات السيرة الذاتية التي يسجل فيها أصحابها بدرجات متفاوتة من الشجاعة والصدق، خبايا في حياتهم الشخصية وتجاربهم الذاتية. ومنهم من يتجرد فتصل كتاباته إلى اعترافات (جان جاك روسو) أو ذكريات (غاندي) أو الصدق الواضح والفاضح في مذكرات الراحل المصري العظيم (لويس عوض).
والمسألة هنا نسبية، تتوقف على قدرة الشخص في كتابة ما يريد أن يقرأه الناس عنه، ولكن إخلاص الكاتب للأجيال الجديدة يجعله أحياناً موافقاً على أن يضع نفسه في قفص الاتهام طواعية، لأنه يكتب بتجرّد وموضوعية وصدق وأمانة. ولقد شهدت الحياة العامة المصرية طوفاناً من المذكرات الشخصية في السنوات الأخيرة؛ فكتب من قبل إسماعيل صدقي وسلامة موسى وغيرهم من الساسة والحكام والمفكرين بدءاً من الملوك وصغار المسؤولين، كما كتب سيرته الذاتية ملك الأردن الراحل الحسين بن طلال وكتب عاهل المغرب الراحل الحسن الثاني وغيرهم في كافة المجالات، وتبقى رائعة (طه حسين) عميد الأدب العربي (الأيام)، أيقونة متفردة لا يمل المرء من قراءتها لعدة مرات على امتداد عمره. ولقد أصدر عدد من الدبلوماسيين المصريين مذكراتهم أيضاً، فكتب إسماعيل فهمي وعصمت عبد المجيد وعبد الرؤوف الريدي ونبيل العربي، ثم أصدر عام 2018 عمرو موسى، مذكراته أو الجزء الأول منها تحت عنوان (كتابيه) وتبعه أديب مرموق بكتاب متميز وأعني به محمد سلماوي، ورصد فاروق حسني مؤخراً تجربته ملخصة في كتاب جديد بعد أن أفرز كتاباً سابقاً لتجربته مع اليونيسكو، وتصلني كتب كثيرة من أصدقاء ومعارف أو حتى ممن لا أعرفهم شخصياً، يدون أصحابها عصارة العمر قبل أن تشتد وطأة خريف الحياة عليهم. ولقد كتب الدكتور الجنزوري تجربته في إيجاز وموضوعية، مثلما فعل آخرون من رؤساء الحكومات والوزراء في العقود الأخيرة، وانبرى الكتاب وكبار الصحفيين في تسجيل انطباعات العمر والزوايا الخفية والذاكرة الحية وكتب عادل حمودة كتاباً يربط فيه بين الحياة وبين حرية الرأي، وقد تلقيت مؤخراً كتاباً لأستاذ جامعي بكلية الفنون التطبيقية وأعني به الدكتور حماد عبد الله وهو أستاذ في الهندسة يرصد بصدق شديد تجربة حياته ومسيرة عمره، فلم يكتب عن الثراء والبيوت الفاخرة والسيارات الفارهة ولكنه كتب عن الحارة الضيقة والجد الطيب، وأعلم من لا يعرف أنه دخل المدرسة الثانوية الصناعية قبل أن يلتحق بكلية الفنون التطبيقية التي تخرّج فيها، وعمل أستاذاً فيها ثم أصبح عميداً لها وارتبط بصداقات شخصية قوية برجال من أمثال: وجيه أباظة ومحمد فريد خميس وعادل حمودة. وذلك كله يغريني حالياً بأن أسجل مسار حياتي في كتاب كبير تحت عنوان (الرواية)؛ لأنها بحق يجب أن تكون رواية عمر تتحدث عن الإخفاقات قبل النجاحات وتشير إلى التراجع والتقدم والانكسار والانتصار وتحكي في شفافية كاملة، ما يجب أن يعرفه الناس عن إنسان معين، قبل أن يمضي قطار العمر ويصبح ذكرى لا يستطيع الرد ولا يتمكن من الدفاع عن نفسه حول افتراءات تلاحقه، ويهمني هنا أن أسجل الملاحظات الآتية:
أولاً: إن تشجيع كتابة السيرة الذاتية التي تشكل في مجموعها ذاكرة للوطن، بما ترصده من أحداث وما ترويه من حقائق، تجعل محكمة التاريخ هي التي تحدد في النهاية، مصداقية ما قاله كاتب معين وما ادّعاه لنفسه أو اتهم به الآخرين، ولقد أحدثت مذكرات عبد الرحمن بدوي ضجيجاً ضخماً لأنه صفّى حساباته بصدق وشجاعة مع كل خصومه فكراً وعملاً، وكذلك جاءت مذكرات الدكتور رؤوف عباس الذي كان رئيساً للجمعية التاريخية المصرية وهي تقطر مرارة عن الزمان والإنسان، فالمسألة تتفاوت بين كاتب وآخر، ولكنها تصب في النهاية داخل وعاء من الصدق والموضوعية، يقوم بغربلة ما قيل والحكم على صاحب المذكرات من درجة شفافيته ونوعية صدقه.
ثانياً: إننا يجب أن نتيح مساحة واسعة من الغفران، لكاتبي المذكرات وألاّ نقيم عليهم الحدّ أو ندفعهم إلى محاولات جلد الذات، في مبالغة لا مبرر لها ولا طائل من ورائها خصوصاً وأنني من المؤمنين بأن الحياة طريقة قبل أن تكون حقيقة، كما أن رحلة العمر تضم وقائع في زوايا النسيان، لا يصل إليها المرء إلاّ إذا أمعن التفكير واستغرق في البحث عن الأسباب والنتائج في كثير مما فعل أو لم يفعل.
ثالثاً: إن الندم الإيجابي أفضل عشرات المرات من الندم السلبي؛ فخير لك أن تندم على أمر فعلته من أن تندم على شيء لم تفعله، ولو استرجع كل منا شريط حياته، فسوف يكتشف أن هناك أموراً فعلها وندم عليها وأخرى لم يفعلها وندم عليها أيضاً، ولكن الفارق بين الحالتين هو الفارق بين الموقف الإيجابي والموقف السلبي، إن المسار الإنساني معقد وصعب ومتداخل، ولكن حصيلته في النهاية هي مزيد من الحكمة وكثير من التعقل وضرورة لصبر بلا حدود.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"