الشعبوية تقبض على الحكم في إيطاليا

05:06 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.غسان العزي

إيطاليا من الدول المؤسسة للاتحاد الأوروبي، إذ كانت في طليعة المسيرة الأوروبية منذ انطلاقتها في بداية خمسينات القرن المنصرم، قبل أن تغدو ضمن الدول الست المؤسسة «للمجموعة الاقتصادية الأوروبية» التي أنشأتها معاهدة روما للعام ١٩٥٧.
من هنا يأخذ موضوع الانتخابات الإيطالية أهمية بالنسبة للأوروبيين، لاسيما مع تقدم الأحزاب الشعبوية في الانتخابات التشريعية الأخيرة التي انبثق عنها تحالف حكومي بين «حركة النجوم الخمس»(٣٢٪ من المقاعد البرلمانية) و«رابطة الشمال» المتطرفة (١٧٪ من المقاعد) واللتين لا يجمع بينهما سوى مناهضة «السيستم» أي النظام السياسي والحزبي التقليدي القائم والاتحاد الأوروبي واليورو وسياسة الهجرة.
بعد ثلاثة أشهر طويلة من المفاوضات الصعبة وافق الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا على التشكيلة الحكومية الجديدة التي سيرأسها المحامي جوزيبي كونتي (أستاذ جامعي في الحقوق لا يملك أية خبرة سياسية أو إدارية) بعد التوصل إلى تسوية قضت بحصوله على ضمانات بعدم خروج روما من منطقة اليورو وبالاتفاق على إجراء انتخابات تشريعية مبكرة في الرابع من مارس/آذار المقبل، وبتعيين لويجي دي مايو زعيم حركة النجوم الخمس وماتيو سالفيني رئيس رابطة الشمال نائبين لرئيس الحكومة، الأول كوزير للعمل والتنمية والثاني كوزير للداخلية.
وقد صدرت ردود فعل أوروبية، لاسيما من فرنسا وألمانيا، تعبر عن الخشية من أن يشكل وصول الشعبويين إلى الحكم في إيطاليا إلى وضعها على سكة تقود الى «إيطالياكيست» على غرار البريكست البريطاني. وتنهض المخاوف الأوروبية على عدة ملفات منها الاقتصاد والهجرة والسياسة الخارجية والخطاب الشعبوي.
في الشأن الاقتصادي وعد الائتلاف الجديد بتطبيق برنامج لخفض العجز العام (الذي يبلغ ٢٣٠٠ مليار يورو) ليس عن طريق الضرائب والتقشف، ولكن من خلال زيادة الناتج الداخلي القائم عبر تشجيع الاستهلاك الداخلي. وقدّم وعوداً أساسية ثلاثة غير مرتبطة بروزنامة محددة: تخفيض الضرائب على الأفراد والشركات، توزيع «راتب مواطنة» قيمته ٨٧٠ يورو شهرياً يستفيد منه أكثر من عشرة ملايين مواطن إيطالي، وتخفيض سن التقاعد إلى ٦٧ سنة. هذا البرنامج سيكلف ١٢٥ مليار يورو لا يدري أحد من أين ستأتي به الحكومة، الأمر الذي سينتج عنه زيادة في الدَّين والعجز معاً، ما يعني زيادة تكلفة التأمين على المخاطر وارتفاع نسب الفوائد على الدَّين. ولا تستطيع «الآلية الأوروبية للاستقرار» أن تفعل الشيء الكثير في الحالة الإيطالية، كما سبق ونجحت مع إسبانيا والبرتغال واليونان. في هذه الظروف قد يصبح خروج إيطاليا من منطقة اليورو أمراً مطروحاً بجدية، الأمر الذي قد يتسبب بانتشار الذعر في الأسواق التي ستبدأ بطرح تساؤلات جدية حول مستقبل هذه المنطقة، والتي ستتعرض ورشة إصلاحها التي انطلقت مؤخراً للعرقلة وربما للتوقف.
بالنسبة للهجرة ما يثير قلق الأوروبيين هو أن ينفذ ماتيو سالفيني زعيم «الرابطة» ووزير الداخلية وعده بترحيل ٦٠٠ ألف لاجئ، وهو وعد تبنته حركة النجوم الخمس التي أعلنت بأن إيطاليا لا يمكنها أن تكون مخيم أوروبا للاجئين.
أما عن السياسة الخارجية فيؤخذ على الائتلاف الجديد رغبته بالتقرب من روسيا والشرق عموماً، ولو على حساب العلاقة بالغرب وبالولايات المتحدة التي تعمل على إلزام الدول الأوروبية بمزيد من المساهمة المالية بميزانية حلف الأطلسي.
وبشكل عام هناك خشية من تنامي الخطاب الشعبوي وامتداده في المساحة الأوروبية ليصبح نموذجاً قد يحكم أوروبا على خلفية الإخفاقات المتراكمة للأحزاب التقليدية.
لكن من السابق لأوانه النظر إلى الائتلاف الجديد في إيطاليا على أنه نموذج جديد سيهيمن على أوروبا بعد أن وصلت أحزاب شعبوية إلى السلطة في هنغاريا وبولونيا والنمسا. فما حصل في إيطاليا ليس سوى أحد أعراض «اللحظة الشعبوية» التي تعيشها أوروبا منذ حوالي العشر سنوات، حيث تتجمع الشعارات الشعبوية حول الدعوة إلى السيادة الوطنية وانتقاد النخب و«السيستم» والاتحاد الأوروبي، وذلك على خلفية أزمة تضرب الأحزاب التقليدية من اليمين واليسار على حد سواء.
بدفع من زعيمها ماتيو سالفيني اقتربت «رابطة الشمال» من الشعبوية الراديكالية اليمينية التي تمثلها «الجبهة الوطنية» الفرنسية إلى جانب حركات يمينية متطرفة في ألمانيا والنمسا وهولندا تحديداً. هذه الشعبوية، الآخذة بالتنامي منذ أواسط الثمانينات، تنهض على قومية متشددة وكره للأجانب وتسييس للظواهر الثقافية المرتبطة بالهجرة والإسلام، فترفض «كوسموبوليتية» النخب لمصلحة الأولوية الوطنية.
في مواجهة شعبوية الإقصاء هذه هناك شكل اجتماعي مساواتي يقع إلى يسار المشهد السياسي، مستوحى تحديداً من التجارب الأمريكية اللاتينية. تطورت هذه الشعبوية مؤخراً في أوروبا، تحت تأثير الأزمة المالية منذ العام ٢٠٠٨، وتعمل أساساً على رهانات اجتماعية - اقتصادية ومشروع راديكالي لإعادة توزيع الثروة الوطنية. حركة النجوم الخمسة الإيطالية تطورت تدريجياً نحو هذا النموذج الثاني من الشعبوية الاجتماعية - المساواتية. وبالتالي فإن الائتلاف الإيطالي الحاكم الجديد يفتقد إلى قاعدة فكرية جامعة تساعده على مواجهة العواصف المقبلة. لكنه يأمل الاستمرار في الحكم بعد الانتخابات التشريعية المقبلة، وذلك لسبب جوهري هو أن الحد من الهجرة والنزوح يتصدر اهتمامات الناخب الإيطالي، كما تُجمع استطلاعات الرأي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"