الصين وبرمجة العولمة من جديد

01:04 صباحا
قراءة 3 دقائق
لا بد أن يشعر سامويل هانتنغتون بسعادة غامرة وهو في قبره اليوم. فهذا العالم السياسي الذي كان خبيراً في استشراف المستقبل هو الذي أشاع مصطلح «رجل دافوس»، الذي يعكس تصوره لعالم متعدد الجنسيات «عابر للقوميات» حيث كان يحلم بعالم تزول فيه الحدود بين الدول وتزول معه «الدولة» المعاصرة، ويخضع فيه الجميع لقوانين السوق وحرية الاختيار. فالعولمة في نظر هانتنغتون ليست مجرد ترابط وعلاقات اقتصادية متكاملة بل هي رؤية شمولية كونية تنصهر فيها الحوكمة السياسية والعلاقات الدولية والقيم الاجتماعية.
فقد شهد هذا الشهر ترحيب المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بالزعيم الصيني شي جينغ بينغ الذي نقل معه إلى جبال الألب العناوين العريضة للعولمة الصينية، تلك العولمة التي يمكن وصفها بالغموض في أحسن الحالات. ورغم سماح النخبة العالمية التي تدير اقتصاد العالم لبكين بالمشاركة في بعض المؤسسات الرئيسية العالمية التي تعتبر أركان تلك الإدارة مثل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي، إلا أنهم لا يزالون يتعاملون مع بعض دول العالم من منظور فوقي يستند إلى مسؤوليتهم المزعومة عن إدارة العالم ليس فقط اقتصادياً بل حتى في القضايا الداخلية للدول مثل حقوق الإنسان وتطبيق الديمقراطية.وقد وصمت الصين بأنها «تغرد خارج السرب» وأنها تنأى بنفسها عن الرؤية الموحدة لمجموعة القوانين التي تحكم العالم. ويرفض الغرب ومعه اليابان اعتبار الصين«اقتصاد سوق» وهو الهدف الذي علق عليه هؤلاء الآمال عندما وافقوا على انضمامها لمنظمة التجارة العالمية قبل 16 عاماً. وقد استثنت الجهود الفاشلة التي تزعمتها الولايات المتحدة لإنشاء أكبر كتلة لشراكة التجارة الحرة عبر المحيط الهادي، بكين من دخولها.

أما باراك أوباما رجل دافوس المثالي فقد حذر في لقاء مع زعماء الأطلسي من «اعتماد الصين العصبية القومية كمبدأ تنظيمي لا يسمح لها بتبوؤ مركز قيادي على المسرح العالمي يليق بثاني أكبر اقتصاد، خاصة في مجال إدارة اقتصاد العالم والمحافظة عليه». واتهم أوباما بكين بأنها تنظر إلى العالم من زاوية مناطق النفوذ ومثل هذه النظرة هي التي تؤجج النزاعات العالمية من وجهة نظره.

لكن الأشهر الستة الماضية انطوت على تغييرات كبيرة.فقد قلب انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي وانتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، موازين نخبة دافوس رأساً على عقب. فخلال سعيهم الحثيث لعولمة العالم تركوا خلفهم الشعوب التي يمثلونها. فالمؤسسات التي نفخوا فيها الكثير كي تحمل مهمة تطوير العالم تقف اليوم عقبات كأداء أمام قطار التقدم الذي يقودونه حاملة يافطة عريضة تطالبه بالتوقف. وبلغ الضنك بنخبة دافوس مبلغه حتى اضطروا لدعوة الرئيس الصيني كي يخرجهم من المأزق.فهل يحمل ثاني أكبر اقتصاد في العالم اليوم يافطة العولمة؟ ربما. ولكن ليس بالطريقة التي تخدم مقال دافوس ومنظريه. ففي خطابه أمام المنتدى أكد شي على التزام الصين بالحفاظ على العولمة وتطويرها. لكنه أثار بعض النقاط التي لم ترق لمستمعيه حيث قال إنه ينبغي تعديل وإدارة العولمة الاقتصادية بفاعلية بحيث نتجنب تأثيراتها السلبية. ويجب علينا الالتزام بالانفتاح الذي يصب في مصلحة الجميع إذا ساده التسامح ونبذ الخلافات. وقد استعمل الرئيس الصيني مصطلح العولمة عدة مرات وفي كل مرة يزينها بصفة «الاقتصادية».

ولم يكن دور الصين في العولمة يوماً ما شمولياً. فهي تتيح للدول التي تسعى لتحقيق التنمية انتهاج سياستها الخاصة دون التدخل الخارجي. وقد حققت الصين حسبما ذكر شي في دافوس، منافع كثيرة جراء العولمة وساهمت مساهمة فعالة في دفع عجلة نمو الاقتصاد العالمي خاصة أيام الأزمة المالية.

لكن بكين كانت دائماً تصر على اتباع النهج الذي يخدم مصلحتها الوطنية. وبرفضها النظرة الأحادية الجانب لرجال دافوس التي تقول بأن مقاس العولمة يناسب الجميع، شغلت نفسها بنمط العولمة الذي يناسبها ونجحت في نقل 600 مليون فقير صيني إلى الاكتفاء والبحبوحة خلال جيل واحد. ولم تفلح أي من الدول الأخرى في تحقيق نصف هذا الهدف.
ويدرك الجميع حالياً أن العولمة في خطر. لكن اتجاهات التقنية والاقتصاد عموماً مستمرة في تعزيز علاقات الترابط بين الدول وهذا يشكل أكبر تحد لإدارة اقتصاد العالم.

لقد حمل شي إلى دافوس رسالة الجهد الجمعي بديلاً للجهد الشمولي الذي اجتهد مستمعوه في تقديم المواعظ حول أهميته. صحيح أنه ليس «رجل دافوس» لكن ما تحتاجه العولمة ليس سوى ما نادى به.فهي بحاجة إلى إعادة البرمجة قبل أن تنطلق من جديد.

*إيريك لي

كاتب ومحلل صيني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"