الضاد بين براثن الأوغاد

03:09 صباحا
قراءة 3 دقائق
حافظ البرغوثي *

تزامن الاحتفال في الثامن عشر من الشهر الجاري باليوم العالمي للغة العربية الذي أقرته منظمة اليونسكو، واعتمدتها الجمعية العامة لغة في الأمم المتحدة سنة 1973، مع تنفيذ سلطات الاحتلال «الإسرائيلي» الشق اللغوي من قانون القومية اليهودية بحذف اللغة العربية التي يتحدث بها أكثر من ربع أهل فلسطين المحتلة سنة 1948، واعتماد اللغة العبرية لغة رسمية بعد أن كانت العربية اللغة الثانية رسمياً.
وحتى نبقى في إطار اللغة العربية ويومها العالمي، تجدر الإشارة إلى أن اللغة العبرية الحالية هي لغة هجينة مختلقة، ولم يحدث أن كانت عبر التاريخ لغة مسماة بالعبرية. فهذا خطأ شائع، فاليهود كديانة كانوا يتحدثون لغات العصور والشعوب التي عايشوها من الآرامية وما بعدها. بينما انبثقت العربية من اللغة الكنعانية فالآرامية والسريانية. ففي مطلع سنة تسعين وثمانمئة وألف قدم إلى فلسطين يهودي روسي، ومكث سنتين، ووضع اللغة العبرية الحالية، مستخدماً الحروف الكنعانية الآرامية والقواعد العربية وكثيراً من المفردات الآرامية والعربية، إضافة إلى لغة الييدش الخزرية ومفردات جرمانية ولاتينية. وقد استخدم اليهود في العصور الإسلامية اللغة العربية في مؤلفاتهم حتى الدينية منها.
نعود إلى العربية التي تضمحل مع اضمحلال الناطقين بها اجتماعياً وثقافياً وعلمياً، لكنها تبقى ذات مخزون لغوي يفوق غيرها من اللغات السائدة، وتتميز عن غيرها بالمحسنات البديعية المعنوية واللفظية، واستطاعت أن تحيي العلوم الإغريقية والقديمة بالترجمة، فهي قادرة على التكيف واستيعاب التطور العلمي، وهي ليست عرضة للانقراض، كما هو حال 2500 لغة مهددة حالياً بالانقراض في العالم أو أكثرها انقرض، لأنها غير مرتبطة عضوياً بالقرآن الكريم. وكانت العربية لغة العلوم والدراسة والبحث في أوروبا في العصر الأندلسي المزدهر، وظلت لغة الطب المعتمدة في جامعات أوروبا. لكن آفة اللغة العربية هي عدم الانتقال إلى لغة العلوم الحديثة في الجامعات العربية، فصارت هناك ثلاثية لغوية لدى الطالب العربي، فهو يتحدث العامية في البيت والشارع، والفصحى في المدرسة، ثم يستقي العلوم باللغات الأجنبية، من هنا تراجع الإلمام بالعربية لدى الجيل الجديد مع تفجر التكنولوجيا الرقمية والأجهزة النقالة والتلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي، وتخلف المناهج المدرسية في تدريس العربية، حيث باتت وسائل الإعلام لا تهتم بالنطق الفصيح، بل تترك المجال للغات الأجنبية لكي تستخدم العامية أيضاً.. وقد كانت العربية الناقل الأمين للعلوم القديمة بالترجمة، ثم أضافت إليها في مجالات العلوم، ومنها استقى الأوروبيون أساس نهضتهم بعد العصور الوسطى، ولو لم ينقل العرب العلوم القديمة، ويبنوا على أساسها لفقدت حلقة مفصلية في التاريخ، ولتأخر التطور العلمي قروناً كثيرة. فالمطلوب أن تنطلق الترجمات العلمية نحو التعريب، لأن دولاً أخرى نجحت في ذلك، مثل فيتنام التي بعد تحررها من الغزو الأمريكي عملت على فتنمة العلوم، فكيف نعجز نحن عن ذلك!
انتشار اللغة أصلاً ارتبط بانتشار الدين الإسلامي، لكن في حالة لغات أخرى كالإنجليزية والفرنسية والبرتغالية والإسبانية ارتبط ذلك بالاستعمار، ولأن هذه اللغات تطورت مع تطور العلوم الحديثة، ولم يكن الجمود اللغوي عائقاً أمام الاشتقاق ونقل المصطلحات العلمية المعاصرة إليها.
لكن في القرون الخمسة الماضية لم تشهد المنطقة العربية هدنة من الحروب والغزوات الاستعمارية، وبذلك أصيبت حركة التطور بالانهيار الكلي، وكان كل استعمار يحاول فرض لغته على الأقطار التي هيمن عليها، وتم إهمال اللغة العربية بشكل مبرمج ومتعمد، فوقعت لغة الضاد بين براثن الأوغاد. ففي العصر العثماني اعتمدت التركية لغة رسمية في الدواوين والمراسلات الرسمية، وفي عهد الاستعمار الفرنسي والإنجليزي والإسباني والإيطالي تم فرض لغات المستعمرين، وما زالت بقاياها موجودة في المستعمرات السابقة. فأي أمة لا تتطور لا يمكن للغتها أن تواكب العصر، ولعل فيضان التكنولوجيا واستسهال الخروج عن الفصحى حالياً يرجع إلى أن الأمة باتت متلقية، وليست منتجة للعلوم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"