الطموح الاقتصادي.. من لينين إلى بوتين

02:00 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. لويس حبيقة

العلاقات بين الغرب والشرق عادت إلى التأزم، وكأننا مجدداً في حرب باردة. العلاقات لا تقتصر فقط على روسيا وإنما أيضاً على الصين وكوريا الشمالية وهنالك اليوم موجة جديدة من النزاعات الباردة المقلقة والمضرة.
مئة سنة مرت على العالم منذ إنشاء الاتحاد السوفييتي وحصول الثورة الشيوعية في سنة 1917. سيحاول لعقود عديدة قادمة الباحثون تقييم ما حصل، إذ إن فهم التاريخ يأخذ الكثير من الوقت خاصة في ظروف لم تكن المعلومات خلالها واضحة معلنة أو موجودة. لذا فإن أوضاع الاتحاد السوفييتي ثم روسيا شغلت وما زالت تشغل العالم. روسيا متقدمة جدا عسكريا ومتأخرة اقتصاديا، فهل هذا النموذج ناجح ويمكن نسخه؟ إعادة انتخاب بوتين بالطريقة غير التنافسية التي تمت بها مؤخرا تشير إلى أن روسيا لم تعتمد بعد الديمقراطية السياسية كما يجب. هذه هي الولاية الأخيرة للرئاسة البوتينية، هذا إذا لم يعدل الدستور ليبقى سنوات أخرى كما فعل الجار الصيني وكما ربما يرغب ترامب في القيام به في أمريكا. العلاقات بين الغرب والشرق عادت إلى التأزم. المشكلة ليست القيادة وإنما العلاقات بين الغرب والشرق التي عادت إلى التأزم، وكأننا مجددا في حرب باردة لن تنتهي بسرعة. العلاقات بين الغرب والشرق لا تقتصر فقط على روسيا وإنما أيضا على الصين وكوريا الشمالية أيضا. هنالك اليوم موجة جديدة من النزاعات الباردة المقلقة والمضرة.
حصلت الثورة الروسية في سنة 1917 في 6 و 7 نوفمبر/‏ تشرين الثاني تبعا للمفكرة الغربية وفي 24 و 25 أكتوبر/‏ تشرين الأول تبعا للمفكرة الروسية. المتعارف عليها هي «ثورة أكتوبر» التي حققها لينين (1870-1924) بالرغم من فشل أولي مهم. حاول لينين القيام بثورته قبل أشهر قليلة إلا أنه فشل، ففر إلى فنلندا بعد أن كان لاجئا في سويسرا. حصلت الثورة وتنازل القيصر واستلم الشيوعيون وكانت الآمال كبيرة بالنسبة للنتائج، إلا أن الرياح لم تجر كما تشتهي السفن. تحقق النمو الاقتصادي القوي من تراكم رأس المال التقني والمادي وليس من التكنولوجيا المتطورة ومن حسن استعمال المواد الأولية والآليات. كان البرنامج الاقتصادي السوفييتي يبنى على الركائز الثلاثة التالية المبنية على الماركسية:
أولا: دفع الصناعة خاصة الثقيلة إلى الأمام. الصناعة هي العمود الفقري للاقتصاد والقسم الثقيل أهم في رأي الحكم السوفييتي من الخفيف. بين سنتي 1928 و1940، ارتفع الإنتاج الصناعي السوفييتي 170% لكن المشكلة التي ظهرت لاحقا هي في التكلفة والفعالية والإنتاجية. الكمية مهمة لكنها غير كافية للنجاح والاستمرارية.
ثانيا: اعتمد الاقتصاد على توافر يد عاملة عديدة في الريف يمكن الاستفادة منها في الزراعة كما يمكن نقلها إلى المدن وتحويلها إلى الصناعة. هذا الاحتياطي البشري كان مهما جدا واستنزف الى أقصى الحدود حتى بالفرض والقوة.
ثالثا: التركيز على التعاونيات الزراعية للإنتاج الكمي والنوعي حيث نعم الاتحاد السوفييتي بأراض شاسعة كان يمكن استخدامها بطرق أخرى رفعا للإنتاجية التي كانت وبقيت ضعيفة. لم تنجح الدولة زراعيا إذ انخفض الإنتاج الزراعي حوالي الربع بين سنتي 1928 و1940، فلم تتمكن الحكومة من نقل الغذاء الكافي الى المدن. من كان يعتقد أن الاتحاد السوفييتي سيستورد الحبوب والقمح من الغرب وهو الشاسع الواسع.
أعجب هذا النموذج العديد من القيادات العالمية منها نهرو الذي قام في سنة 1955 بجولة على المناطق السوفييتية دامت 16 يوماً. استفاد نهرو من منهجية الخطط الخمسية السوفييتية، فاستوحى منها الكثير لخططه الوطنية. حصل على المساعدات العينية والتقنية من السوفييت. هنالك دول أخرى أعجبت بالتجربة السوفييتية كالصين وكوبا وفنزويلا وغيرها وما زلنا اليوم نسمع قيادات حالية تقيم إيجابا بعض التجارب الاشتراكية منها جيريمي كوربن رئيس حزب العمال البريطاني دون أن ننسى الرئيسين الكوبي والفنزويلي.
أتى لينين إلى الحكم مع حلم كبير فوضع برنامجا اقتصاديا طموحا ساهم في تحقيق نمو قوي فاق أحيانا النمو في الغرب. وضعت أول خطة خمسية في سنة 1928 اعتمدت على تخفيف دور القطاع الخاص وتأميم الزراعة ما سبب كارثة إنتاجية تحققت معها مجاعة كبيرة في سنة 1933 فمات الملايين. لكن الصناعة الثقيلة نمت بنسب سنوية قاربت 10%. بالرغم من أن النجاح لم يكن كليا ولم يعم كل القطاعات، ما الذي سبب السقوط الاقتصادي بدأ من السبعينات والذي أدى إلى زوال الاتحاد السوفييتي؟ هل كان بإمكان غورباتشوف انقاذ الاقتصاد؟ هل كانت هنالك أخطاء كبيرة ساهمت ليس فقط في ضرب الاتحاد وإنما في انهيار الشيوعية كنظام حيوي وفاعل؟ إلى أي حد ما زال بوتين يحكم بالطريقة السوفييتية نفسها بالرغم من كل الشعارات الرنانة؟ إن فترة يلتسين الرمادية أو السوداء لم تدرس بعد كما يجب في خصائصها ونتائجها.
أولا: أتى لينين إلى الحكم ما سبب انتخاب هتلر في ألمانيا، لأن الألمان خافوا من الطموح الروسي الاقتصادي والعسكري. اعتقد الألمان أن انتخاب هتلر يساهم في الانتصار على الشيوعية. كانت فترة صعبة نعاني من نتائجها حتى اليوم.
ثانيا: يمكن اعتبار فترة الخمسينات العصر الذهبي للحكم السوفييتي حيث ارتفع الناتج المحلي السنوي 6% لكن هذا لم يدم لأن الحماسة للنظام خفت بسبب سوء الممارسات والإنفاق الكبير على التسلح. بينما بلغ الإنفاق العسكري السوفييتي 16% من الناتج، لم يتعد هذا المؤشر 5% من ناتج الولايات المتحدة. استنزف الإنفاق العسكري السوفييتي إيرادات كبيرة، فأضعف الاقتصاد مع الوقت وأتعب الشعب.
ثالثا: اعتمد النمو السوفييتي على التراكم السريع لرأس المال وعلى استعمال اليد العاملة بشكل مكثف واستغلال الموارد الأولية دون النظر إلى استمراريتها وتجديدها. لذا ما زالت روسيا اليوم تعتمد نفس الطريقة أي تتكل على المواد الأولية دون أن تطور إنتاجية القطاعات.
رابعا: لم تتقدم الإنتاجية بالرغم من وجود نظام تعليمي مدرسي وجامعي فاعل ومتطور وذلك بسبب غياب الحوافز المادية للنجاح. رأينا العديد من العلماء السوفييت ينجحون في الغرب بسبب البيئة المناسبة منهم الاقتصادي كوزنتس مثلا الذي طور أنظمة المحاسبة الوطنية وأدخل الإحصائيات إلى الاقتصاد كما لم يحصل سابقا. حصل على جائزة نوبل لسنة 1971.
خامسا: لم تكن الظروف الخارجية مناسبة أي عوامل الحرب الباردة والحروب المتواصلة في آسيا وغيرها لم تعط النظام السوفييتي الوقت الكافي ليهتم بالداخل كما يجب. طبعا كان هنالك تقصير حيث كان الاهتمام بالنفوذ الخارجي يفوق الاهتمام بالاستقرار الداخلي، وهذا ذنب الجميع من لينين حتى بوتين. حاول غورباتشوف قلب التطورات أي تحويلها من سلبية إلى إيجابية لكنه تأخر جدا في التنفيذ أي في تحويل الاقتصاد تدريجيا إلى النظام الحر.
سادسا: وضع غورباتشوف خطته الخمسية 1986 - 1990 لكن النمو لم يتجاوب إذ بقي في حدود 2% في الثمانينات وتدنى إلى سلبي 4% في 1990 وسلبي 13% في 1991. من الأسباب تدني أسعار النفط واعتماد الدعم والإعانات التي أوقعت الموازنات في عجز كبير لا يمكن الاستمرار به. في آخر سنة 1991، استقال غورباتشوف وتفكك الاتحاد السوفييتي.
لا شك أن العوامل الاقتصادية أسقطت الاتحاد السوفييتي، إلا أن العوامل الإدارية لم تكن قليلة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"