العرب في مواجهة النظام العولمي

04:25 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.علي محمد فخرو

أياً تكن مواقف الأمم والمجتمعات الأخرى من النظام النيوليبرالي الرأسمالي العولمي، فإننا نحن العرب، نحتاج أن نبلور موقفاً يستجيب لمتطلبات المرحلة التاريخية الحاضرة التي نمُر بها، ويأخذ في الاعتبار مصالح مجتمعاتنا العليا.
لا حاجة للتذكير بأن العديد من بلدان العالم بدأت تقوم بتلك المراجعة، بما فيها من كانت تعتبر عرابة ذلك النظام العولمي، أي الولايات المتحدة الأمريكية، التي ما إن رأت مصالحها الوطنية تمس حتى بدأت تضعها في مواجهة شعارات انفتاح العالم على بعضه بعضاً، والتي كانت ترفعها من أجل مصالح شركاتها ومؤسساتها المالية، لا من أجل نظام اقتصادي أممي عادل يفيد الجميع.
هناك مرحلتان لابد من ولوجهما. فأولاً، لا يوجد من يطالب بالانسحاب من النظام الاقتصادي العولمي، فقد أصبح ذلك من المستحيلات بالنسبة لكل دول العالم، لكن من الممكن رفض، أو تعديل، أوضبط بعض ما تطرحه هذه العولمة من شعارات ثقافية، أو تطبيقات اقتصادية، وسياسية.
فنحن لسنا ملزمين بقبول فكرة الفردية الأنانية المطلقة التي تجعل الفرد منسلخاً عن ثقافة وسلوكات مجتمعه، وعن التزاماته التضامنية مع مواطني بلده، وعن توازنه المادي - الروحي. عن طريق التنشئة، والتعليم، والإعلام، والثقافة الرفيعة، من الممكن منع الفرد من الانزلاق في درب الاستهلاك المجنون غير المنضبط، ومن الجلوس متفرجاً على بؤس الآخرين وأوجاعهم باسم أفضلية المصالح الذاتية.
لسنا ملزمين بقبول شعار عدم تدخّل سلطات الدولة في الشأن الاقتصادي وترك ساحة الاقتصاد والمال لتحكمها حرية الأسواق وأنظمتها النفعية التنافسية. فللدولة أدوار حيوية في ضبط الاحتكار والتنافس غير الشريف، والفساد الذّممي، وتركُز الثروات في أياد قليلة، والتعامل مع القوى العاملة بلا عدالة، والتراجع المفجع لإمكانات الطبقة الوسطى المعيشية.
جميع تلك الأمور وغيرها، أي كل ما يجعل توزيع الثروة الوطنية توزيعاً عادلاً وأخلاقياً، تحتاج إلى قوانين ورقابة ومحاسبة، أي إلى تدخّل جميع مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية.
لسنا ملزمين بخصخصة الخدمات الاجتماعية العامة، وتركها نهباً لمزاحمات وتنافسات من أجل الربح، على حساب ذوي الدخل المحدود. فخدمات من مثل التعليم، والصحة، والعمل، والإسكان، والنقل العام، والمساعدات المادية والاجتماعية للفقراء والضعاف والمهمشين يجب أن تلعب الدولة دوراً كبيراً في تقديمها، أو التأكُد من توفّرها بأثمان معقولة ومستويات جيدة لجميع طبقات المجتمع.

لسنا ملزمين بإضعاف سلطات الدولة، وبتمييع مسؤولياتها، وبجعل الناس نهباً لثقافة عولمية سطحية، وإعلام منحاز للأقوياء والأغنياء، أو بالخضوع لإملاءات الشركات العابرة للقارات، والحكومات الاستعمارية التي لا ترى في هذا العالم إلا ساحات نهب واستغلال.
تلك هي المرحلة الأولى. أما المرحلة الثانية فهي عدم ترك تلك الضوابط والقوانين، وتدخلات سلطات الدولة التنظيمية، خصوصاً في حقلي الاقتصاد والمال، نهباً للتخمين والتجريب العشوائي. المطلوب خلفية فكرية، ومرجعية علمية موضوعية لتقود خطوات المرحلة الأولى، وتكون مرجعية سياسية واقتصادية وثقافية لها.
في الاستراتيجية السياسية أثبتت العقود الماضية أن الاعتماد على الإمكانات المحلية القطرية قد فشلت فشلاً ذريعاً في تأمين متطلبات الأمن والتنمية البشرية والتعامل مع قوى الخارج العدائية. إن الرجوع إلى زخم الأمن القومي المشترك، وإلى بناء اقتصاد عربي تكاملي متعاضد ومتناغم، وإلى الاتفاق على استراتيجيات مشتركة في التعامل مع العدو الصهيوني والخارج الاستعماري، قد أصبح ضرورة وجودية لكل العرب.
التعامل مع مساوئ النيوليبرالية الرأسمالية العولمية سيكون غير مجد من دون مواجهته بجهود واستراتيجيات قومية عربية شاملة. سيخطئ القادة العرب إن اعتقدوا أنهم يستطيعون تجنب حمل هذه المسؤولية.
لكن الإشكالية الصعبة المعقدة ستكون في الاتفاق على الخلفية الفكرية التي ستواجه بها وبآلياتها وبتحليلاتها الاجتماعية مساوئ وثغرات الجانب الاقتصادي من العولمة. فعن أي فكر نتحدث؟
دعنا أولاً نؤكد أن تجارب المجتمعات الرأسمالية العريقة، في الغرب وفي الشرق، قد أثبتت أن تصحيح النواقص الذاتية في بنية النظام الرأسمالي، المحلي أو العولمي، لا يمكن أن تأتي من داخل النظام الرأسمالي نفسه. كل ما فعله النظام الرأسمالي عبر السنين من عمره هو إيجاد حلول مؤقتة لكل أزمة يدخل فيها، وتهدد وجوده. حتى إذا ما أعادت الحلول المؤقتة التي تكون عادة على حساب الفقراء والطبقة العاملة والمواطن العادي، التوازن للنظام الرأسمالي المأزوم، عادت حليمة إلى عادتها القديمة، وسارت في طريق الوصول إلى الأزمة التالية.
إذاً، لا يمكن التعويل على الفكر الرأسمالي وتنظيماته وتطبيقاته، ولا على عرابيه من المفكرين، أن يقدموا للناس وللدول موازين ومقاييس ومحددات ومنطلقات لتصحيح الخلل وتجنُب الكوارث التي يأتي بها النظام الاقتصادي النيوليبرالي العولمي الذي نراه أمامنا الآن.
هنا يطرح السؤال التالي نفسه بقوة وتحد: هل في الفكر الاقتصادي الآخر، ما يمكن أن يساعد بلاد العرب في إنجاح المهمة التي نتحدث عنها؟
لسنا وحدنا نطرح هذا السؤال. إنه مطروح، حتى في أعتى مراكز الرأسمالية المعروفة، من مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، بعد أن اكتشفت الرأسمالية أنها تتخبّط يميناً وشمالاً وتنتقل من ظلام إلى ظلام أدكن.
سنحاول الإجابة عن هذا السؤال في مقال آخر، مستعينين بتجارب الآخرين وبمتطلبات مواجهة الكوارث التي يعيشها العرب.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"