العولمة والحروب الرحّالة

00:42 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

ما يحدث الآن في العالم من تفجيرات يؤكد أن العالم بات يعرف أشكالاً جديدة من الحروب غير التقليدية، بدأت منذ أن شرعت العولمة في فرض سياساتها التوسعية والإمبريالية على الدول الوطنية، وأصبح لمفهوم الحرب نفسه دلالات مغايرة، وشرع السياسيون في استخدامه في سياقات غير مسبوقة، ووفق قواعد لم تألفها مفاهيم السياسة ومصطلحاتها.

كانت الحروب محددة في الزمان والمكان، وتحوّلت فجأة إلى حروب رحّالة، وبعد أن كان العالم يتطور بفضل انتقال الثقافات والقيم الحضارية، بدأ يعيش لحظات من العماء المطلق نتيجة لتحول الحروب إلى مشاهد رحالة تنشر الرعب والدمار.
لقد أعلن الرئيس الفرنسي غداة تفجيرات باريس، الحرب على تنظيم «داعش»، أي على دولة افتراضية، بعد أن كان إعلان الحروب يتم سابقاً على دول حقيقية كاملة الأركان والسيادة بجغرافياتها وحدودها الإقليمية المعترف بها.
صحيح أنها ليست المرة الأولى التي يتم فيها إعلان الحرب على تنظيم عابر للحدود، فقد سبق لجورج بوش الابن أن أعلن الحرب على الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول، لكن الدعوة إلى هذه الحرب الجديدة - القديمة، تزامنت هذه المرة مع سلسلة تفجيرات مسّت مناطق ودولاً عدة، من سيناء إلى بيروت وصولاً إلى عاصمة الأنوار باريس، ثم تونس، ليستيقظ العالم على مشهد من الفوضى العارمة وغير الخلاقة، دخل فيها الجميع في مواجهة مع الجميع، ولم يعد الصراع بين الدول فقط، بل تحوّل إلى صراع بين المجتمعات، وبين المجتمع الواحد نفسه؛ وبات الاختلاف عنواناً للقتل والتدمير بعد أن كان مدخلاً لصراع الأفكار وواجهة للإبداع الحضاري.
هكذا، وبشكل فجائي أضحى العالم يعيش في دوامة مفتوحة من العنف الأعمى، وحروباً يصنع تجارها حدوداً إقليمية وعالمية، يؤمنون بالدولة ويكفرون بها في اللحظة نفسها، يؤسّسون لجغرافيا سياسة مغايرة تقوِّض قواعد العلاقات الدولية المتعارف عليها، ويبنون كيانات هجينة عابرة للأوطان والدول.
كانت الدول في السابق تُعلن حربها وتعلن سلمها، لأنها كانت تحارب هويات سياسية، وليس أشباحاً تتحرك تحت جنح ظلام الأفكار وفساد المعتقد، وبالتالي فإن كلمة «حرب»، وبالرغم من تأثيراتها المدمرة في الدول والمجتمعات، فإنه يجب ألا توظف اعتباطاً عندما يتعلق الأمر بمقاومة الزيغ والظلال وحالات انعدام الإنسانية، كما هو الشأن مع التنظيمات الإجرامية، لأن مقاومة الإرهاب والتكفير ليست حرباً بالمعنى السياسي المتخصص والمحترف للكلمة، ولا يمكن بالتالي أن نُعلن الحرب على من يمارسون العنف ويبحثون عن زبائن لتجارة الموت، علينا فقط أن نطبّق القانون الأرضي والسماوي الذي يدعو إلى تحييدهم وإخراجهم من دائرة الحضارة البشرية، ذلك أن الأمم والدول لا تعلن الحروب إلا على الخصوم الذين يمتلكون القدرة على صناعة السلام.
من المؤكد في كل الأحوال أننا نشوِّه ونفسد قواميس اللغات الإنسانية، عندما نستعمل مفاهيم عقلانية لها دلالتها وسياقاتها التداولية المحدّدة، في وضعيات مرضية - لا عقلانية يسعى من خلالها المدافعون عنها إلى الدفع بالبشرية نحو حالة من العدمية الشاملة.
لقد وصل العالم إلى هذه الحالة المُفجعة من العنف الأعمى نتيجة للنفاق السياسي للدول والقوى الكبرى التي تتناقض في سلوكاتها وتستعمل خطاباً مزدوجاً، تقاوم الإرهاب وتدعمُه، تقتل زعماؤه ولا ترى حرجاً في دعمهم بالمال والسلاح. فقد كشفت تقارير استخباراتية أن هناك صلات اقتصادية بين بعض الإطارات الرسمية في الدولة التركية وتنظيم «داعش» من أجل تهريب البترول نحو الأسواق الخارجية. ولا شك في أن مثل هذه الممارسات تجعل الدول المعنية في وضعيات صعبة بعد أن أسهمت في رعاية وتقوية هذه الكيانات الإجرامية، وتجد نفسها الآن عاجزة عن محاربتها لأنها لا تملك منظومة سياسية عقلانية واضحة المعالم قائمة على استراتيجية مدروسة تأخذ في الحسبان أفكار الآخرين وردود أفعالهم الممكنة، إذ إنه ليس بإمكان أيٍّ كان أن يتنبأ بقرارات وتصرفات مثل هذه الكيانات الهلامية في المستقبل القريب أو البعيد. ويمكن القول في سياق متصل إن تحركات المتطرفين تهدف إلى تدمير مساحات التعايش بين الشعوب والأمم، وبين الطوائف والأديان، كما تسعى إلى القضاء على المكاسب التي حققها المسلمون من أجل الاندماج داخل مجتمعاتهم الأوروبية الجديدة، مستغلين في ذلك غياب الإرادة السياسية الواقعية من أجل القضاء على الأسباب الحقيقية التي تقف وراء انتشار العنف والتطرف في مناطق عدة من العالم، لأن مقاومة الإرهاب يجب أن تتم عبر مسارات شاملة أمنية واقتصادية وثقافية ودينية، عوض الترويج لبلاغة ملتبسة ومدمرة تميّز ما بين تشدد خطر وآخر معتدل، وبخاصة بعد أن أثبت الإرهاب أنه يُحسن استغلال المساحات الرمادية التي توفرها السياسات المتخبطة للقوى العظمى.
ويجب الاعتراف في هذه العجالة، بأن ظاهرة الإرهاب تمثل التحوّل الأبرز الذي عرفته البشرية مع حلول الألفية الجديدة، فإذا كنا قد قطفنا، في القرن التاسع عشر، ثمار الحداثة، وعايشنا بعد ذلك منجزات الحداثة البعدية في القرن العشرين؛ فإننا نعيش الآن إرهاباً ما بعد حداثياً، يكفُر بالدول والقوانين ويسعى إلى إعادة شريعة الغاب في أبشع صورها القروسطية. شريعة أبطالها شباب عبثيون ينتقلون بسرعة الضوء من عالم الدعارة والمخدرات، ليتحوّلوا فجأة إلى «أبطال» خرافيين في الإرهاب و«جهاد» النكاح، بعيداً عن كل رؤية استشرافية أو مستقبلية، كأن «جنة» «داعش» تنظرهم في المنعطف مباشرة بعد إنجاز مهمة القتل والتفجير.
إننا نعيش الآن مرحلة «المستقبل الزاهر للحروب»، حروب يقول عنها أحد المفكرين الفرنسيين، إنها تمثل التعبير النهائي لاستحالة العيش المشترك، وهي بمثابة تجسيد للحروب المتعلقة بالصراع حول المشروعية، التي تمثل الترجمة الأكثر حدّة لحروب البشر، لأنها تضع في مواجهة مباشرة كل أولئك الذين اعتادوا على العيش المشترك: الأقلية ضد الأغلبية، السكان الأصليون في مواجهة المهاجرين، والأمم والدول في مواجهة المجموعات. ولا يمكن التصدي لمثل هذه الوضعيات، إلا من خلال تجاوز حالة العطب التي أصابت الدول الوطنية، والعمل على إعادة المشروعية الكاملة للدولة الراعية لمواطنيها وفق ما تنص عليه قواعد العقد الاجتماعي، حتى تتمكن الإنسانية، في زمن العولمة الجديدة، من تجاوز هذه المرحلة التي تغلب عليها حالة الحروب الرحّالة، والعودة بالتالي إلى المفاهيم المرنة والمتنقلة وإلى الأفكار التنويرية التي تنشر ثقافة السلم والإخاء بين بني البشر، لأن الخالق لم يستخلف عباده إلاّ من أجل نشر الخير والمحبة، ولم يبعث رسُله وأنبياءه الأكرمين إلاّ ليكونوا رحمة للعالمين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"